الدولة العلمانية دولة دينية بنكهة الإلحاد .. معاذ الحافظي

 

يبدو أن الحديث في السياسة يحتاج إلى فقهاء في المجال، لكن وبما أن السياسة أصبحت في متناول الجميع، بسبب خلط المفاهيم، وابتكار مصطلحات لا يمكن فهمها من طرف العامة بشكلها الصحيح، أكتب عن الدولة كما أرى بعيدا عن النظريات الفلسفية والمعارفية فإن وفق كلامي بعضهم فهي صدفة لمن يؤمن بالصدف، وإن دفعت عن الدولة المدنية وليس الدولة الدينية، فذاك كوني مسلم بالفطرة قبل الإيمان.

الدولة الدينية تذكرني بالعهد الفرعوني الذي يستمد الحاكم فيه سلطته باعتباره الإله؛ حيث يمارس جميع أنواع الاستبداد، والاستغلال والفساد في الأرض. الدولة الدينية تذكرني أيضا ببلاد أوروبا في عصر أحرقت الكتب العلمية وعُذب وقُتل كل من أتى بفكر جديد عن الكنيسة، فرجال الدين يعتبرون أنفسهم موجهين من قبل الإله ويمتثلون لتعاليم سماوية، يفعلون في الأرض ما يحلوا لهم، ولهم الحق في بيع صكوك الغفران وبيع القصور والجنان في عالم غيبي مفتاحه إعمار الأرض بالحق. إذا كان هذا هو حال دين الكنيسة وهذه هي الدولة الدينية، فماذا عن دين شعاره الإسلام؟

مبادئ العلمانية غير مرتبطة بدين أو إلحاد أو أي شيء له علاقة بحرية المعتقد. لكنها المنهج الذي يدافع عنه بعض شبابنا أغلبيتهم ارتدّوا عن الدين لسوء فهمهم للإسلام.

الإسلام تلك النعمة الربانية الشاملة لكل القضايا البشرية، والتي كانت كلمة اقرأ أول ما فتحت به رسالة الإسلام، كدعوة إلى التأمل في الكتاب المنظور قبل الكتاب المقروء؛ للوصول إلى غاية واحدة هي: معرفة وجود الله الواحد الأحد، والتعرف على أن هناك حياة وحياة. وقد استطاع النبي محمد صلى الله عليه والسلام أن يخرج أمة من الظلمات إلى النور، فأضاء الكون بعدله، واعتداله وسماحة دين الله، فأعطى هذا الدين الجديد لكل ذي حق حقه، وعاش الجميع بسلم وسلام، ويكفي أن تقرأ عن سيرة القائد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعن أصول وشرائع الإسلام حتى تشعر أنك محظوظ بالتعرف على دولة تؤمن بمبادئ الدولة المدنية. لكن هل يعقل أن ما آل إليه المسلمون في زماننا هذا يجعلنا نصنف الدولة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم ورسم أجهزتها مع فتح مجال الاجتهاد ضمن الدول الاستبدادية؟

لا بأس فالقضية أصبحت مجرد إقناع بالحق باطلا كان أو حقيقة، رغم أن الحقيقة أصلها الحق، لذلك أدعوك أيها القارئ للعودة إلى التاريخ الإسلامي والوقوف مع أول دستور ديمقراطي بلغة هذا العصر، هذا الدستور عبارة عن وثيقة ترسم العلاقة بين السلطة وأهل المدينة بجميع طوائفها، مع نزول آيات القرآن تباعا لتنظيم أحوال الأمة.. المهم وأنت تقرأ عن التاريخ الإسلامي في بداياته ستجد أنك في دولة مدنية تعطي لكل ذي حق حقه، وقد لا أسميها دولة بحكم اختلاف الزمان، لكن لا بأس أن نحتفظ بشعار الدولة ونضيف لها كلمة الإسلامية المرتبطة بالمدنية في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين إلى أن تغيرت مبادئ الحكم في الأمة من اختيار الشورى إلى الاختيار الاستبدادي.

هذا الاختيار الاستبدادي هو من دفع بمجموعة من الشباب بإعلان الإلحاد والدفاع عن الدولة العلمانية باعتبارها دولة مدنية تحترم معتقداتهم، عكس الدولة الدينية التي لا تضمن الحريات الفردية لشعبها، وقد نجد من المسلمين إن لم أقل من علماء هذا الدين العظيم من يزكي قول هؤلاء العلمانيين عند الحديث عن موضوع الحريات الفردية وحرية المعتقد.

القرآن الكريم أعطى الفرد كامل حرية الاعتقاد وضمن له حق التعايش إلا في حالة إعلانه الحرب على الإسلام وحمله السلاح في وجه المسلمين.

أوافق أصدقائي العلمانيين قولهم بأن الدولة الدينية لا تضمن الحريات الفردية، لكن أخبرهم أنه لا يمكن تصنيف الدولة الإسلامية ضمن الدول الدينية، ولتأكيد قولي أدعو الجميع إسلاميين وعلمانيين وملحدين إلى تحديد المصطلحات لأن معظم خلافاتنا ناجمة وناتجة عن عدم تحديد المفاهيم. وحتى لا ينجم خلاف مع القارئ الكريم أفسر وأوضح وأتفق مع بعض العلمانيين، أن مبادئ العلمانية غير مرتبطة بدين أو إلحاد أو أي شيء له علاقة بحرية المعتقد. لكنها المنهج الذي يدافع عنه بعض شبابنا أغلبيتهم ارتدّوا عن الدين لسوء فهمهم للإسلام الشمولي والذي أعطى كامل حريات المعتقد.

لعل الموضوع الذي يناقش كثيرا بين الشباب في موضوع الحريات هو حد الردة، لكن قبل الحديث عن هذا لا بد من التوقف قليلا عند الحريات الفردية كمفهوم تقييدي للحرية مع تقسيمها إلى ثلاث مستويات:
المسألة الأولى: أن تمارس حريتك الفردية حق لك ولا يمكن لأي دين أو قانون أو مجتمع أن يمنعك.
المسألة الثانية: أن تعبر عن حرياتك وتدافع عنها بكل الوسائل ما دمت بعيدا عن العنف والكراهية والعنصرية.
المسألة الثالثة: ممارسة الحريات الفردية في الأماكن العامة، أكرر؛ الأماكن العامة، يخضع للقانون المصادق عليه من طرف الهيئة التشريعية (البرلمان). وأعتقد أن هذه التقسيم يرجع للدكتور المغربي عمر احرشان وهو بالمناسبة محسوب على الإسلاميين.

قد نتفق مع الدكتور وقد يختلف معه البعض في المسألة الثالثة، لكن أعتقد أن النضال من أجل الدولة المدنية حيث السيادة للشعب بمعنى وبشكل ديمقراطي يمكن للأغلبية أن تصادق على منع ممارسة للحريات الفردية في الأماكن العامة عندما يشكل ذلك انزعاجا للآخرين..

العلمانية ليست حلا للوصول إلى دولة مدنية ببلداننا وإنما البحث عن مسار نهضوي جديد يعالج كل الإشكاليات من خلال الحوار والبحث والقراءة.

عودة إلى موضوع حد الردة الذي يحارب حرية الفرد من المستوى الأول من خلال قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لدِينِهِ المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ”. حديث صحيح (منتقد) مع القرآن الكريم الذي وردت فيه آيات تعطي للفرد حرية الاعتقاد. أستغرب بوجود شاب بين الشباب يحتفل بوجود هذا التناقض ويبدأ في تصنيف الدولة الإسلامية بالاستبدادية وغيرها من المصطلحات، لكنّ المسكين لو قرأ في السيرة لوجد أن صاحب الحديث الذي لا ينطق عن الهوى لم يقتل مرتدا وحيدا ولم يهدر دمه، بل وافق على ميثاق صلح الحديبية وفيه هذا البند: “من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد من غير قريش دخل فيه“. هنا يمكن أن نتساءل كيف يمكن أن يكون الداعي بقتل المرتد في الحديث الأول؟

نعم! هو صاحب القول وهو حديث صحيح كما رواه الإمام مسلم، وحسب اجتهاد بعض أهل العلم فهذا الحديث لا يطبق إلا في حالة الحرب، بمعنى أن يعلن الفرد كفره فهذا شأنه ولا أحد يمنعه عن اختياره بل القرآن الكريم أعطاه كامل حرية الاعتقاد وضمن له حق التعايش إلا في حالة إعلانه الحرب على الإسلام وحمله السلاح في وجه المسلمين، وهنا يصبح المرتد قَطَعَ الأمْرَ بينه وبين المسلمين على أمر وَقَعَ عليه اتفاقهما وهو التعايش وهذا قصد النبي بـ “المُفَارِقُ للجَمَاعَةِ”.

حمل السلاح على أمة أو جماعة مهما كان دينها لن ننتظر الجواب بابتسامة، وهذا هو قانون حد الردة المرتبط بالحرب، أما اختيار الكفر مع الالتزام بالسلم فلن تجد آية قرآنية أو حديثا نبويا يمنعك.

خلاصتي أن الدولة الإسلامية دولة مدنية لا مثيل لها، والدولة العلمانية تساهم بضرب المعتقد على شكل الدولة الدينية. وبالتالي فالعلمانية ليست حلا للوصول إلى دولة مدنية ببلداننا وإنما البحث عن مسار نهضوي جديد يعالج كل الإشكاليات من خلال الحوار والبحث والقراءة، بعيدا عن الأفكار الغربية التي أعتبرها “كالجسم بلا روح”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى