الغواية الفرنسية .. الياس خوري
هناك غواية فرنسية تسكن في وعي العالم الحديث. من الثورة الفرنسية إلى كومونة باريس وثورة أيار / مايو 1968، ومن سارتر إلى كامو ومالرو. سحر خفي دفع كبار كتّاب وفناني العالم للهجرة إلى باريس أو الاقامة المؤقتة فيها.
والغواية الفرنسية متعددة الوجوه، من الاناقة إلى الأدب والفن، ومن الثورة إلى النبيذ، ومن الأجبان إلى المطبخ الفاخر.
لا علاقة للغواية الفرنسية بالنوستالجيا المرضية إلى الزمن الكولونيالي، أو إلى الحمى المفبركة التي نجدها في الفرنكوفونية الآفلة. انها غواية كسر القوالب الجامدة، والحرية التي جعلت من جيلنا، في غمرة انبهاره بالفكر النقدي الفرنسي، يتناسى ان بلادنا عانت من الاستعمار الفرنسي، وان دمشق قصفت والجزائر دمرت، لأن الثقافة الفرنسية نجحت في أن تشكل مع السارترية وما بعدها، أفقاً للحرية، لا نجد مثيلاً له في الثقافة الغربية.
لم تكن الغواية الفرنسية تشبه الخطيئة، كما يدل المعنى القاموسي لكلمة غواية، وإذا تضمنت شيئاً من الخطيئة فهي خطيئة «أزهار الشر»، التي تقع ما بعد الخير والشر.
غير أن شعوراً جديداً بدأ يحتل مكان هذه الغواية، فعندما يتصدى أفّاق يميني وصهيوني يدعى برنار هنري ليفي لوراثة سارتر، ويملأ الاعلام الفرنسي والعالمي صخباً وضجيجاً، وعندما يبدأ الخطاب اليميني العنصري في احتلال موقع متقدم في الحياة السياسية والثقافية الفرنسية، وعندما يندثر اليسار في خطاب السيد ميلانشون في شعبوية فاقدة للمعنى ومؤيدة لديكتاتورية بشار الأسد، فإن هذه الغواية تفقد بريقها.
انها المرة الأولى التي أشعر فيها بأنني نجوت من المصير الفرنسي. اذ لو كنت فرنسياً، لكان عليّ أن أختار بين مرشحين للرئاسة، هما نقيض الغواية الفرنسية:
إيمانويل ماكرون، مرشح المؤسسة والمصارف والخطاب الرأسمالي، الذي لا يملك سوى سلاح التخويف من اليمين الفاشي.
أو مارين لوبين، مرشحة الجبهة الوطنية بلغتها الفاشية المغطاة بالشعبوية، وكراهيتها للآخرين، وأحقادها العنصرية.
قلت في نفسي أنني أحمده على نعمة أن لا أكون معرضاً لتجربة هذا الخيار، لأنني كنت سأجد نفسي مضطراً للتصويت للسيد ماكرون، من أجل منع وباء الفاشية من الانتشار والوصول إلى السلطة.
نعم لم يكن أمامي سوى إعطاء صوتي للسيد ماكرون، كملايين الفرنسيات والفرنسيين الذين وجدوا أنفسهم في وضعية من لا خيار له، فاختاروا السيّء خوفاً من الأسوأ، وصوتوا بلا اقتناع بأهلية هذا المرشح الشاب، الذي جاء من ظلال كواليس السياسة الفرنسية، ليملأ فراغاً سوف يستمر طوال السنوات الخمس المقبلة.
لكن سعادتي بنجاتي من هذا الخيار لم تدم طويلاً، إذ تذكرت انني في بيروت التي فقدت غوايتها من زمان، ولا تزال تعيش على ذاكرة غواية مستعارة من الماضي.
لن أتحدث عن غواية اندثرت، كي لا أقع في مرض الحنين الذي أكرهه لأنه صار مرادفاً للعجز، ولكنني لا أستطيع وأنا أراقب الانتخابات الفرنسية سوى الشعور بالأسى.
هناك يدور صراع بين مرشح المصارف وبقايا المؤسسة السياسية وبين الفاشية التي تشهد صعوداً لا سابق له. أما هنا فالمسألة لا تتعلق فقط بقانون انتخابي صارت الطبقة الحاكمة عاجزة عن بلورته بسبب جشعها وشراهتها للنهب والتسلط والديكتاتورية، بل لأن الطبقة الحاكمة اللبنانية تجمع طرفي المعادلة، انها سلطة رأس المال المتوحش والمصارف من جهة، كما أنها تجسد الفاشيات الطائفية من جهة ثانية. جميع أمراء الطوائف يجمعون هاتين الصفتين. فأن تكون طائفياً يعني أن تكون عنصرياً، كما أن الامارة التي تتحكم بها هي وسيلتك إلى تراكم الثروة، التي كانت هي ايضاً وسيلتك إلى التسلط.
الفرنسيون اختاروا أمس الأول ايمانويل ماكرون بأغلبية كبيرة، صحيح أن خيارهم كان مقنناً بانحطاط سياسي يدعو إلى الأسف، لكنه احتفظ بالحد الأخلاقي الأدنى، وهو منع الفاشية من احتلال فرنسا، أما نحن في بيروت، فإننا عالقون في دوامة استبداد طائفي معوّق ومشلول وفاقد للمعنى.
قلت عن بيروت لكنني لا أستطيع أن أنسى واقع هذا المشرق العربي الذي يعاني مرارة الاحتلال الذي صار لعنة الاستبداد.
سوريا التي تعيش تحت البراميل والكيميائي والتي صار نظام الحكم فيها آلة للانتهاكات التي لا تحصى، سوريا هذه نجح المستبد في اسقاطها تحت الاحتلالات الأجنبية، وفلسطين التي يعربد فيها الاحتلال الاسرائيلي منذ سبعة عقود، والعراق المحتل، ومصر التي سقطت من جديد تحت الاستبداد العسكري، وخليج الحلف غير المعلن مع اسرائيل.
أوطان محتلة بشكل كامل، لكن الاستبداد ومرآته الاصولية وحروب الوحشيات الطائفية، تمنع الناس من رؤية حقيقة بلادهم، وتجعلهم أسرى حروب أهلية صار الناس فيها مجرد أدوات، وفقد العرب القدرة على أن يكونوا طرفاً حقيقياً فيها مع أنها تدور على أرضهم.
فرحي بالنجاة من «العلقة» الفرنسية، ليس سوى وهم. نحن في بلاد الشام والمشرق نعيش خيار اللاخيار. وعندما اختار الناس في بلادنا الحرية، وجدوا أمامهم سداً صنعه ورثاء تيمورلنك، وهستيريا أصولية متوحشة، ساهمت في تدمير بلادهم.
نحن لا نملك كالفرنسيين الخيار بين الكوليرا والطاعون. لذا علينا، اذا كنا لا نزال نؤمن بقيم الحرية أن نبدأ من الأول، مثل مروان البرغوثي وأحمد سعادات وألف وخمسمئة أسير فلسطيني مضربين عن الطعام، وسط لامبالاة سلطتي الأمر الواقع في فلسطين وصمم العالم.
الغواية الفرنسية تغرب اليوم، ومعها يغرب عالم قديم، ويولد مسخ هو مزيج بين الرأسمالية المتوحشة والفاشية، علينا أن نكتشف أبجدية مقاومته.
القدس العربي