الأزمة مع قطر والفجور في الخلاف .. محمد كريشان
مع كل خلاف سياسي بين العرب يخرج دائما أسوأ ما فينا، تطفو على السطح كل تلك العقد الصغيرة والكبيرة التي ظننا، أو أوهمنا أنفسنا، أنها اختفت أو تراجعت. لهذا النوع من الخلافات خصائص هي من الانحدار بحيث قد لا توجد عند أقوام وأعراق وأديان أخرى مع أننا الأكثر إدمانا على تكرار تلك القائمة الطويلة من العوامل التي توحدنا.
وإذا أردنا أن نقف، بمناسبة هذا الخلاف الخليجي- القطري الحالي، عند بعض هذه الخصائص فليس أقل من أن نسجل ما يلي:
– ينزل إلى “ساحة الوغى” الجميع، الكل لا يتمالك نفسه على أن يشمـّــر عن ساعديه ليختلط بالجموع المتشنجة فيـَــــلكم معها و يُــلكم. يختلط الغبار بالعرق والصراخ فيستوي الوزير برجل الدين بالأستاذ الجامعي بالصحافي بالطالب بالبائع المتجول بالميكانيكي بالعاطل عن العمل.
المهم ألا يتخلف عن “القتال” أحد أو يتلكأ، الكل يناديهم “الواجب الوطني” الذي لا يظهر بكل هذا العنفوان إلا في القضايا الخاسرة أو التافهة.
– طبيعي و الحال على ما هو عليه من هذا التشنج أن تغيب بالكامل أي معالم، ولو خفيفة، لثقافة الحوار أو الاختلاف. أنا وحدي على حق وما عداي كاذب ومفتر. حتى في هذه يستوي الجميع فقد يصادف أن تجد الشيخ إمام المسجد بنفس سوقية هذا الشاب الغر المتنطع. جازى الله مواقع التواصل الاجتماعي كل خير فقد عرت الجميع فلم تبق لأي كان أقنعة أو مساحيق، بل نرى في البذاءة وقد تنافس المتنافسون.
– تجييش الإعلام من كل حدب وصوب وفي كل الاتجاهات حتى لكأنك تظن أن الساعة قد قامت. هنا أصابت الأضرار الجميع بدرجات متفاوتة، ولكن منهم من أصيب في مقتل.
كان محزنا للغاية، على سبيل المثال لا الحصر، أن تسقط صحيفة عريقة في ما لا يمكن أن تسقط فيه صحيفة محلية في الأرياف فتجري مقابلة هاتفية مع “شخصية شبح” وتقول إنها لن تنشرها حتى يتقدم هذا الرجل إلينا ونراه!! ثم تخصص لرجل دين بارز صدر صفحتها الأولى وعلى كل أعمدتها ليقول، لا فض فوه، إن الحصار ضد القطريين هو لصالحهم!!
– جعل المواطنين العاديين هم من يدفعون التكلفة دائما. لا أحد من التونسيين ينسى إلى اليوم كيف “شحن” القذافي التونسيين عام 1986 ورمى بهم على الحدود لخلافه مع بورقيبة آنذاك.
كانت الشاحنات تصل يوميا بالنساء والرجال والأطفال ليلقوا في العراء، كما لا أحد من الفلسطينيين سينسى كيف رمى القذافي كذلك بعد اتفاق أوسلو 1993 بمئات الفلسطينيين في منطقة السلوم الصحراوية على الحدود مع مصر نكاية بالقيادة الفلسطينية. ها نحن اليوم نشهد ممارسات “قذافية” في منطقة الخليج ولكن بتخريجات متنوعة لا تختلف في النهاية في شيء عن معاقبة القذافي لهؤلاء الأبرياء المقيمين على أرضه لمجرد الخلاف السياسي مع قيادتيهما.
لقد أدت الأزمة الحالية إلى تعقيدات شتى في حياة الناس المقيمين في دولة قطر ومن بينهم مثلا المصريون وعددهم يصل إلى زهاء الــ 300 ألف مع أن هوى معظمهم قد يكون مع السيسي!! أما ما حصل للعائلات الخليجية المشتركة فحدث ولا حرج إلى حد فصل الأم عن رضيعها!!
تختلف كل دول العالم وقد تصل الأمور بينها حد الحرب لكن لن تجد أكثر من العرب تخلفا في إدارة خلافاتهم، بل إنك تراهم اليوم لا يمتلكون حتى أخلاق عرب الجاهلية، بعد 14 قرنا من الرسالة المحمدية العظيمة، وبعد كل هذه العقود من الرخاء الذي جعلهم ينتقلون إلى التنافس المحموم في العمران حتى صارت بناياتهم تعانق عنان السماء.
في خلافات الدول العربية في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي وما أعقبهما لم يكن غسيلنا منشورا على الجميع، لم يكن هناك سوى الإذاعات المحلية محدودة البث وربما لجأ البعض إلى “إذاعة لندن” لمعرفة حيثيات ما يجري بلغة راقية، أما إذا شاؤوا الردح والشتائم فبإمكانهم التحول إلى “صوت العرب” في القاهرة أو “صوت الوطن العربي” في طرابلس أو ما يشبههما في دمشق وبغداد وكل العواصم التي عرفت من هذه الخلافات الكثير الكثير.
اليوم صارت “فضائحنا” على الملأ وصرت ترى الخلافات السياسية تصل حتى مجال الرياضة فيبعد هذا “الكابتن” ميكروفونا لهذه القناة التلفزيونية خلال مؤتمر صحافي لأن حكومة بلده مختلفة مع حكومة هذا الميكروفون، ويرفض هذا تلقي سؤال رياضي في مؤتمر صحافي آخر للسبب نفسه، فيما تذهب حكومة بلد آخر إلى منع أجهزة استقبال هذه القناة الرياضية التي تتخذ من الدوحة مقرا لها. بربـّــكم، ما الوجاهة في حرمان مواطن في السعودية، قد يكون مؤمنـــا تماما بأن “قطر إرهابية”، من مشاهدة مباراة برشلونة وريال مدريد ؟؟!!
القدس العربي