قصّة مدينتين: حريق “غرينفل” اللندني آلام الفقراء التي غابت عن شاشات التلفزيون وعاشت على الشاشات البديلة
لعل من أبرز الإستنتاجات التي أفضت إليها الانتخابات البريطانيّة العامة الأخيرة هي أن مؤسسات الإعلام الجماهيريّة – لا سيما التلفزيونات – بدأت تفقد مصداقيتها وقدرتها على التاثير في جمهورها المستهدف – لا سيما بين فئات الشباب، والطبقات الشعبيّة، وأن هؤلاء لم يعودوا يرون في تلك الشاشات ما يعبر عنهم أو يضع أطباق الحقيقة على موائدهم، فانتقلوا في بحثهم عن المعلومة الغائبة إلى منابر أكثر التصاقاً بهم صارت تسمى الشاشات البديلة: أي وسائط التواصل الإجتماعي بما توفره من مساحة لنقل الخبر ضمن هامش حريّة غير مسبوق.
وقد تبيّن من النتائج التي حصل عليها حزب العمّال المعارض مثلاً أن كل حملات التلفزيونات العامة وزميلتها الصحافة الشعبيّة الموجهة في خطاباتها للطبقة العاملة لم تفلح في ثني هؤلاء عن التصويت ضد رغبات النخبة، بينما نجحت ماكينة حزب العمال التي ركزت حملتها للوصول إلى المواطنين من خلال منصات التواصل الإجتماعي في قلب كل التوقعات وكادت أن تنقل السلطة إلى جيريمي كوربن، زعيم العمال.
غابت التلفزيونات وتألقت الشاشات البديلة
تكرر الأمر خلال الأسبوع الماضي لدى اندلاع الحريق الهائل في برج غرينفل السكني في العاصمة لندن. فالضحايا كانوا من الطبقة العاملة ومهمشي المدينة، مهاجرين ولاجئين وعاطلين عن العمل.
وهكذا تجاهلتهم الجهات الحكوميّة، ونقلت التلفزيونات العامة والصحف الشعبيّة أخباراً مجتزأة عن الحريق تلمح في مجموعها إلى مسؤوليّة السكان أنفسهم عن الحادث، وتحاول إخفاء أوجه التقصير الحكومي. لكن على الأرض كانت الأمور مختلفة تماماً: فالشاشات البديلة ووسائط التواصل الإجتماعي فتحت آفاقاً هائلة لنقل تفاصيل الحدث وردود الأفعال، ونشر المعلومات عن الضحايا والتواصل في ما بينهم، وكذلك بناء شبكات الدعم المحليّة – غير الرسميّة – واستيعاب المجتمع المحلي صدمة الحريق المفجع الذي انتهى بمقتل العشرات وتشرد الناجين في الشوارع بما عليهم من ثياب مقابل الفشل الحكومي المطبق الذي لا يليق حتى بحكومة من العالم الثالث.
لاحقاً ساهمت الشاشات البديلة في تغطية تجمعات السكان وهم يقومون بأنشطة جماعيّة نادرة لم نرها في المملكة المتحدة منذ الثمانينيات، كاقتحام مبنى البلديّة، والتظاهر أمام مقر الحكومة للمناداة بسقوطها، والسخرية من الميزانية الهزيلة التي رصدتها لمساعدة السكان مقارنة مثلاً بمئات ملايين الجنيهات التي أنفقت على ترميم قصر بكينغهام أو حتى تكاليف المشاركة في حروب أمريكا في العراق وأفغانستان.
عن رابطة النّقود التي غيّرت كل شيء
من اقتصرت مصادر معلوماته على التلفزيونات الجماهيرية – بما فيها “بي بي سي” والصحف الشعبيّة – لمتابعة الأخبار عن الحريق سيرضخ لفكرة أنه مجرد حادث لسكان برج سكني آخر في العاصمة. لكن الشاشات البديلة أفلحت بالفعل في تقديم صورة أعمق لأوجاع الناس واندلاع أحلامهم في كابوس ليلي وأشمل وأقرب للواقع، واضعةً البنان على الحقيقة التي لم يعد ممكناً نكرانها: تكرس انقسام المجتمع البريطاني إلى قبيلتين متضادتين تطور كل منها ثقافة مستقلة لا شأن لها بثقافة القبيلة الأخرى.
هذا الإنقسام الذي ظهر واضحاً بين محتوى الشاشات ومحتوى الشاشات البديلة ليس ابن اليوم بالطبع، بل هو صنو تراكم المشروع الرأسمالي البريطاني ذاته. يقول توماس كارلايل إن الثورة الصناعيّة غيّرت بنية المجتمع البريطاني بشكل غير مسبوق. فنظم الإنتاج الجديدة التي نشأت بدايات الثورة الصناعيّة فرضت تحولات في العلاقة بين أصحاب العمل والمستخدمين من علاقات تستند بشكل أو بآخر على التزامات متبادلة بين الطرفين إلى التزامات تتعلق بما أسماه “رابطة النقود”، حيث العلاقة بين الطرفين مقيسة ببدل مالي فحسب.
وهذا تسبب لاحقاً بخلق مجتمعين متوازيين في بريطانيا: فهناك أحياء كاملة في المدن والبلدات تقطنها الطبقة العاملة فحسب وتتسم عموماً بالتكدّس وبتدني مستوى المعيشة والخدمات فيها، أقله مقارنة بالأحياء التي يقطنها أصحاب العمل، والرأسماليون وكبار المديرين لديهم، والتي تمتاز برقيّها وكثرة المساحات الخضراء فيها وتوفرها على الخدمات الممتازة. شيئاً فشيئاً تطورت ثقافتان منفصلتان نوعاً ما بين الطرفين: ثقافة عماليّة منغلقة تحاول النخبة التحكم بها من خلال المدارس والصحافة والمؤسسة الدينية، ولاحقاً من خلال التلفزيون والسينما، مقابل ثقافة عليا منفتحة على التيارات العالميّة النخبوية لكنها بعيدة عن جيرانها المباشرين.
أثناء الحرب العالميّة الثانية توحدت الطبقتين من جديد في تحمل آثار الدمار وتقديم التضحيات الباهظة، لكن الطبقة العاملة بالذات قدمت أبناءها وقوداً، ومن لم يقتل منهم على الجبهات عاد واثقاً من أحقيته بالوطن الذي قاتل لأجله. ولذا تولت الحكومات التي أدارت البلاد بعد الحرب – ولا سيما العماليّة منها – إقامة مشاريع للتخفيف من راديكاليّة هذه الطبقة ومنها برامج الإسكان الحكومي التي توفر للفئات الأقل حظاً في المجتمع نوعاً من حد أدنى لسكنٍ كريم ضمن مجمعات ضخمة مقابل رسوم رمزية .
برج غرينفيل الذي احترق كان واحداً من هذه المشاريع، وهو أنشئ عام 1974 في منطقة شمال كينسينغتون قلب لندن بينما تحولت المنطقة الجنوبيّة من الحي إلى واحدة من أفخم أحياء العاصمة تباع منازله بالملايين لنخبة البلاد، وللأثرياء من دول العالم كافة لا سيما روسيا والصين والعالم العربي.
الذي حدث لاحقاً أن الحكومات البريطانية المتعاقبة منذ أيام مارغريت تاتشر والتي غلب عليها طابع السياسات النيوليبرالية، أوقفت إقامة مثل هذه المشاريع وحاولت بكل الطرق التخلص منها، سواء بتعقيد إجراءات نقل ملكيتها أو من خلال الإهمال شبه المتعمد لها كي تصبح طاردة للسكان ومن ثم التخلص منها رويداً رويداً.
ربما كان من سوء حظ سكان برج غرينفل بالذات أنه كان بارتفاعه الشاهق عمّا حوله مطلاً على الجزء الرّاقي من كينسينغتون. وهكذا فقد أرادت البلديّة المحليّة تحسين منظره الخارجي كي لا ينفّر السكان الأثرياء، فعملت على تكسية البناء من الخارج بألواح ملونة – بأقل تكلفة ممكنة – تبين فيما بعد أنها قابلة للاشتعال السريع، بينما لم تستثمر شيئاً تقريباً في رفع سوية البناء من الداخل لمواجهة كوارث محتملة – كالتي انتهى إليها – وذلك رغم شكاوى السكان المتكررة.
وهكذا وبسبب حادث حريق عرضي يمكن اندلاعه في أي منزل ويفترض التعامل معه خلال دقائق قليلة ومنع انتشاره في أرجاء المبنى، تحول غرينفل إلى ما يشبه فرناً مشتعلاً كأنه انفجار بركان أرضي هائل، دون أن يسنح لكثير من السكان الذين كانوا نياماً بعد منتصف الليل أن يهرعوا خارجاً، فلا جهاز إنذار الحريق كان يعمل، ولا المبنى مجهز كفاية لتأخير الحريق ولا السكان لديهم تعليمات واضحة في كيفية التصرف. وزادت المواد الرديئة التي وضعت على الواجهات الخارجيّة من سرعة اشتعال المبنى الذي وقفت أجهزة الإطفاء شبه عاجزة في مواجهته لا سيما في الطوابق العالية.
بالطبع لم تُشر الشاشات العامة – أو صحف البارونات – إلى أي من جذور الأزمة، بينما لم تتحدث الشاشات البديلة إلا عن تلك الجذور.
سرد معلن لأحداث موت التلفزيون الذي نعرف
إذن هذا الانقسام الاجتماعي والثقافي بين المدينتين – إن جاز التعبير – يرافقه انقسام مواز على مستوى الشاشات، ومن المفترض أنه سيتسبب بقلق داخل أوساط النخب المهيمنة على الحكم في دول العالم – لا سيما العالم الأول – من نشوء ثقافة مقاومة محليّة شعبيّة تنسق نشاطاتها وتستمد معلوماتها من خلال الشاشات البديلة التي كسرت ودون رجعة احتكار الشاشات التقليدية – والصحف الرديئة – لصناعة الرأي العام.
التحدي الأهم سيكون دون شك على جبهة التلفزيونات ذاتها التي سيجد إعلاميوها أنفسهم وبحكم اتجاه الأمور وقد فقدوا مبرر وجودهم، وأصبحوا – كما ضفدع أُلقي في ماء فاتر وأشعلت النار من تحته – هوامش غير ذات صلة بما يجرى من أحداث، وربما ينتهون إلى الانقراض ما لم يتداركوا سوء اللحظة التي تعيشها الشاشة الفضيّة.
برج غرينفل الذي احترق، ليس مجرد دليل على جرف هائل يقسم البريطانيين ولكنه سيدخل كذلك في تاريخ الإعلام كما رمز مشتعل وسرد أحداث موت معلن لظاهرة التلفزيون كما عرفناه خلال العقود الأخيرة.
ندى حطيط | القدس العربي