يحذر قول سوري من إدخال الدب إلى الكرم لحراسته، لأنه سيكون الحارس والمستولي على الكرم في آن معا. لكن هذا القول ورغم سدادة تفكير من وضعه، فإنه لم يقنع بشار الاسد، الذي هرول فزعا إلى الدب الروسي يستجدي حمايته، من ثورة كادت تكنسه، بعد أن استنجد بحزب الله في إبريل 2013 الذي لم يفلح بقضه وقضيضه، ودعم ولاية الفقيه في طهران له سلاحا وعتادا، في صد المد الثوري، وتقدم الثوار على جبهات عدة.
في موسكو التي وصلها بشار على متن طائرة شحن روسية، أعطى موافقته على كل الشروط الروسية، من بناء قواعد عسكرية وبحرية، وعدم التعرض للقوات الروسية التي ستكون لها اليد الطولى في سورية لضرب الثورة السورية، تحت غطاء» محاربة الإرهاب»، وهو شعار النظام السوري لتبرير قتل الأبرياء المطالبين بالحرية، بإلباسهم ثوب الإرهاب. وقد تشجع فلاديمير بوتين بتنازلات بشار، ووجد في العرض الأسدي فرصة ذهبية لضرب عصافير عدة بحجر واحد: بناء قواعد روسية لتثبيت حضور روسيا العسكري في منطقة البحر المتوسط، قطع الطريق على خط أنابيب الغاز القطري عبر الأراضي السورية (خط أنابيب الغاز الذي كان مزمع انشاؤه عبر الأراضي السورية، وربطه بخط أنابيب نابوكو لتزويد تركيا وأوروبا بالغاز القطري)، امتلاك الورقة السورية لإبرازها في وجه أوروبا وامريكا في حال التفاوض بالشأن الأوكراني، إعادة إظهار روسيا كلاعب دولي اساسي، بعد تراجع دورها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي.
وقد شجعت إدارة أوباما الروس بطريقة غير مباشرة على الدخول في المغامرة السورية، بعد أن تراجع الدور الامريكي في عهد أوباما، الذي ترك لروسيا وإيران حرية التصرف على الاراضي السورية، وبعد أن تراجع عن خطوطه الحمراء في ما يخص استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة، ورغم تحذيرات اسرائيل لإدارة أوباما من تنامي الخطر الإيراني.
ففي أواخر شهر سبتمبر 2015 بدأت طائرات السوخوي والميغ قصف مواقع المعارضة، مدعية أنها تحارب المنظمات الارهابية «داعش» و»النصرة»، مع القناعة الأكيدة بأن المسألة لن تطول، وأن أسلحتها الفتاكة التي جربت إلى الآن، أكثر من مئتي سلاح جديد في رؤوس الأطفال السوريين وأمهاتهم، كفيلة بحسم الموقف خلال أسابيع عدة، أو بضعة شهور على أقصى تقدير، لكن حسابات الحقل لا تطابق بالضرورة حسابات البيدر.
فاليوم ومنذ ما يقارب العامين لا تزال الطائرات الروسية تقصف مواقع الثوار، من دون أن تنجح في القضاء عليهم، خاصة في درعا والغوطة الشرقية، رغم النجاح النسبي الذي حققته في بعض قرى ضواحي دمشق، أو في حلب. وتيقنت موسكو من أن الحل العسكري بمفرده لن يؤتي أكله، ما لم يرفق بحل سياسي مفصل على مقاسات الرغبة الروسية، في عدم قتل الراعي ولا الذئب، مع التضحية ببعض الغنم.
وقد سارعت الخطى باتجاه إنشاء منصات سياسية «لمعارضات معتدلة» في القاهرة وموسكو، تقوم بدور «المشوش» على المعارضة السياسية للثورة السورية، المتمثلة بالائتلاف الوطني واللجنة العليا للمفاوضات (التي تحافظ على مواقفها الثابتة في انتقال السلطة الكاملة، ورحيل بشار الأسد، حسب قرارات جلسات جنيف الخمس) وإنشاء مسار جديد للمفاوضات بعيدا عن جنيف، مخصصا للفصائل العسكرية في آستانة، لشق صف المعارضة واعتبار الفصائل المسلحة هي المخولة بالتفاوض في مسائل ميدانية على أقل تقدير، ورغم الزخم الذي بدأ فيه إلا أنه بات متعثرا كمسار جنيف، بعد جولاته الست، التي أطالت أمد الصراع، وبقاء الأسد ونظامه، فبعد أربع جولات من المفاوضات التي حاولت فرض وقف إطلاق النار، من دون نجاح، لأنها اي روسيا اول من انتهكه، ثم رسم خرائط لمناطق «تخفيض التوتر»، التي لم تسفر عن نجاح يذكر أيضا، لأن أول من اخترق هذا الاتفاق هم الروس أنفسهم.
ولم تنجح موسكو إلى الآن في تحديد موعد للجولة الخامسة لآستانة، بانتظار انتصارات جديدة في درعا والغوطة، تساعدها في الضغط على المعارضة للقبول بالشروط الروسية، وعلى رأسها بقاء الاسد، «ولو صورة»، لإضفاء شرعية ما على التدخل الروسي، وإرضاء الحليف الإيراني، الذي لم يدع عميلا من عملائه إلا واستدعاه وزجه في ميليشيات بتسميات مختلفة تذكر بالدولة الفاطمية (فاطميون، زينبيون) تقوم طائرات الروس بتغطية قواتها وقوات الميليشيات الأخرى، التي يصعب على المرء حصرها (حزب الله اللبناني، حزب الله العراقي، عصائب الحق، الحشد الشعبي، الحرس الثوري، لواء أبو فضل العباس، كتائب القدس، كتائب سيد الشهداء، كتيبة الزهراء، كتيبة العباس، لواء اسد الله، لواء الامام الحسن، لواء الإمام الحسين، منظمة بدر) ويضاف إليها ميليشيات عقائدية بعثية وقومية ( البعث اللبناني، والقوميون السوريون، وفلول من قوميجين من دول عربية مختلفة)، ورغم كل هذه الحشود المختلطة، والطيران الروسي والسوري، التي ترتكب يوميا عشرات المجازر بقصف جوي بحق الشعب السوري، إلا أنها ما زالت بعيدة عن تحقيق آمالها بالقضاء على الثورة، وبدا أن روسيا باتت منهكة اقتصاديا جراء التكاليف الباهظة للحرب في سورية، وهي تبحث عن إنهاء مهمتها باقل الخسائر الممكنة، مع الاحتفاظ بأكبر قدر من المكاسب، لكن عوامل عدة دخلت على الخط تعرقل المسار الروسي ـ الاسدي ـ الايراني، وهو التواجد الامريكي شمالا داعما القوات الكردية في حربها ضد «داعش» وامتداد سيطرتها على مساحات واسعة في الشمال ومنطقة الرقة، وجنوبا في منطقة التنف والحدود السورية الاردنية داعمة فصائل الجيش السوري الحر، للسيطرة على منطقة الجنوب، وقد قامت بنشر صواريخ هيمارس بعيدة المدى ذات القدرة التدميرية الكبيرة، كتحذير واضح لإيران وميليشياتها بعدم الاقتراب من التنف. وهذا لم يكن متوقعا من الادارة الامريكية السابقة في عهد اوباما.

وهذه المنطقة التي ستكون بمثابة منطقة آمنة بحراسة أمريكية، ما يجعل الجغرافيا السورية مقسمة على عدة مناطق نفوذ روسية ـ ايرانية ـ أسدية، ومناطق تركية في الشمال، ومناطق امريكية، ومناطق تسيطر عليها المعارضة في الغوطة الشرقية تدعمها دول خليجية، وعدة مناطق متفرقة في إدلب، والمنطقة الواقعة بين حمص وحماة، والمنطقة المتاخمة للجولان، وهذه المناطق الموزعة على الخريطة السورية، تذكر إلى حد ما بخريطة البوسنة والهرسك إبان الحرب الأهلية، التي انتهت بتقسيم البوسنة كواقع على الارض، والحال السورية تقترب كثيرا من هذه الحالة، أو على أقل تقدير إلى فيدرالية تسيطر على مناطقها القوى المتواجدة فيها، وبمفهوم آخر تفتيت سورية وشعبها بعد أن تم تدميرها وتهجير نصف السوريين، وقتل نصف مليون سوري مع مئات آلاف الجرحى، والحبل على الجرار، في ظل ضعف المعارضة، والصمت الدولي، وتلاعب الدب الروسي الذي دخل الكرم السوري ولن يخرج منه، ولا يرى في عودة سورية موحدة ذات سيادة بأنها تناسب مخططاته الاستراتيجية بعيدة المدى، لأنه يخشى أن أي حكومة منتخبة تحظى بالشرعية الشعبية والدولية على كامل تراب سورية المحررة من سلطة النظام الأسدي، وميليشيات ايران أن تطلب منها الرحيل، بعد أن عاثت في سورية فسادا ودمرت مدنها، فهذا السيناريو يقض مضاجع بوتين، الذي يفضل التعامل مع نظام أسدي مهلهل يقع تحت سيطرته، يضمن دون اي احتجاج بالوجود الروسي على الاراضي التي تقع تحت سيادته (سورية المفيدة) إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ولكن في رمال سورية المتحركة لا ضمان لأحد أن يحتفظ بما لديه كلاعبي البوكر المهددين دائما بالخسارة، حتى لو حققوا مكاسب في بداية اللعب.

 

 

 

 

 

 

القدس العربي