نصر الله وتيم حسن: بطلان لمعركة خاسرة وميدالية المقاومة لخرائب اسطنبول .. لينا أبو بكر
الدم وصل للركب في الخليج، دون أن يتم إطلاق رصاصة واحدة، وصناعة القتل في “غرابيب سود” أصبحت متعة فضائية، وفنا استعراضيا، يستقطب الانتحاريين، وطوابير الجثث، قبل النسب الرقمية المتعطشة لدماء البطيخ المذبوح عالسكين، من “الهيبة” حتى فلسطين، أما العريس تيم حسن، فيدخل إلى قفص الزوجية ببندقية، بعد أن تحول من رتبة “وصيف” في الموسم السابق إلى “شبيح” خلال هذا الموسم الدرامي، ويا إلهي ما ألذ الرجال، حين تكون بنادقهم سواعد العاصفة… مع الأخذ بعين الاعتبار حكمة تحول عادل إمام من زعيم إلى عفريت!
في إحدى خزائن ملوك الهند، هناك، في ذكريات الأزمنة الفضائية البعيدة، كانت الطيور والبهائم وحدها من تستأثر بأدوار البطولة، لتخلد معجزة الفيلسوف “بيدبا” في عمل أسطوري هو “كليلة ودمنة”، وبأداء قصصي مذهل، يعجز عنه بنو البشر، دون أن تحتاج تلك الحيوانات لا إلى مخرجين ولا شركات إنتاج ولا خبراء أزياء وماكياج، ولا إلى محطات فضائية أو مهرجانات تكريم، أو رواتب خيالية، أو حتى مشاهدين، كل ما هنالك، شوية حكمة على شوية ذكاء وحلاوة روح وعفوية مقصودة، وخيال ملعون، وسخرية بنت حرام، ومعجزة النبي سليمان لفك شيفرة التخاطب بين تلك الكائنات، وطاغية لا يمكن ترويضه إلا بخفة يد لا يملكها السحرة ولا المشعوذون، ولا القتلة، إنما الكتبة الذين أقسم ربهم بأقلامهم وبما يسطرون… لا بما يسرقون!
“جبل” ونصر الله: بين التحصين والاختباء
التخايل، الذي يشبه التحايل بمعناه الإبداعي، يستوحي من شخصية السيد حسن نصر الله ظلالا خلفية، لشخصية “جبل” في مسلسل الهيبة، التي يؤديها الفنان السوري تيم حسن، مستعينا بثيمة الاختباء، التي تكرس حضورا مهيبا يعزز التأثير ويسبغ عليه هالات غوائية لاهبة، وسحرا ملوعا بالشغف والزيف، لأن الأقاويل تفعل فعلها، فتزيد من جرعة الإبهار وخصوبة الافتتان… وربما لهذا السبب ظل المشاهد مشدودا إلى “الهيبة”، رغم الفارق الرمزي الخطير بين الجبل كحصن والمقاومة كمخبأ!
تحبه؟ ولم لا تفعل؟ ألم يخدعك باقتدار؟ ألا تجذبنا الخديعة أكثر مما تفعل الحقيقة، التي نرفضها حين لا تقدر على إقناع مخيلتنا السرية، كلما اصدمت بهلوساتنا المضمرة؟ طيب، ماذا عن جرائمه؟ ألم يعترف هو بلسانه أن لكل حرب ثمنها؟ كل ما أراده، أن يقاتل ليحمي، وأن يقتل ليذود، وهذه سنة الآلهة، في اختراع الموت كمهمة ملائكية، وليست كمعركة خاسرة بين عزرائيل والموتى! ولكن هل يعشق الأبطال؟
هل تليق بهم تلك الأدوار الحميمية الناعمة، التي يتحول بها الرجال من محاربين مفترسين إلى نمور تموء دون أن تخرمش فوق سرير القمر؟ ربما حين يتعلق الأمر بمسلسل “في الداخل” التركي، الذي حقق أعلى نسب مشاهدة على “اليوتيوب”، يغدو الإغراء بالعلاقات العاطفية بخسا جدا، لأن الدور يحتاج إلى شحنة عالية ومركزة من الارتباط الذهني والوجداني بالعائلة، ما يقتضي عدم تشتيت أو توزيع العواطف بين جهات أو أطراف عديدة تقتطع حصصها من هذا التركيز وتضر بالقصة الأساسية للعمل الدرامي والتي تدور حول البحث عن أخ مختطف من عصابات الشوارع، وهو ما دفع الكاتب لقتل البطلة خلال الحلقات الأولى، من أجل حصر وتكثيف كل الانفعالات في بؤرة واحدة، بالتالي ضمان خاتمة متقدة، إلى الحد الذي يمكن به أن تصدق أن باستطاعة الأتراك أن يؤدوا أكثر المشاهد “القبلات” سخونة، بألسنة فرنسية مبتورة! الأبطال لا يعشقون، ولهذا جاء أداء “أخيل” براد بيت – البطل الأسطوري في ملحمة طروادة، هزيلا يثير الضحك أكثر مما يشعل النيران المتأججة في مرمى الجمرات الراكدة، وهو يمارس ما يمارسه مع أسيرته!
أيها المشاهد، أعرف أن عقلك يأخذك إلى حيث يردك، فلماذا تتعب نفسك بالبحث عن المعنى، طالما أن الأجمل يكمن بالعثور على ما تريده أنت لا ما تمليه عليك الرموز، هنا فقط تغدو صاحب قرار، وقبطانا للغة، لا كلب أثر يتقفى لعناتها.. ولنتفق أنا وأنت على افتداء البطولة بدم اللغة.. وسمها… وهذا يكفي كي نحب الموت في سبيل الحب، قبل أن نحب الأبطال الذين يموتون في سبيل الدراما!
نزار من المخيم إلى الجبهة
نزار ليث أسعد، طفل فلسطيني من مخيم البقعة في الأردن، وأحد المرشحين لجائزة الشيخ محمد بن مكتوم لتحدي القراءة العربي، بعث لي بفيديو مصور، يوثق للحياة اليومية لأطفال المخيم، يقوم فيه بدور تمثيلي بين المدرسة والبيت والعمل، حيث يعكس المعاناة اليومية لهذه الشريحة، التي تواجه قسوة الظروف وشح الإمكانيات وإلحاح الضرورات ما يضطرها لتوزيع الجهد الذهني والنفسي والعضلي بين الدراسة واللعب وكسب الرزق لإعانة العائلة، وبعيدا عن الفذلكات المبتذلة والاستهلاك التعبيري المجاني، يجنح نزار إلى العفوية، واقتضاب اللغة، للتركيز ولو دون قصد تام، على الحالة من الداخل وليس ما يحيطها أو ما يعبر عنها، ليصل بك إلى فلسطين، الرسالة والهدف والحقيقة، كأنه بشكل أو بآخر يطل من بوابة البشرى والوعد الحاسم للسيد حسن نصر الله في خطابه في ذكرى يوم القدس العالمي، مبشرا بشعوب عربية لا تستكين لتطبيع العلاقات مع العدو ولا تعترف سوى بالحق والمسؤولية تجاه قضيتها الأعظم، مهما بلغت الجهود والإمكانيات العربية والدولية المبذولة لتذويبها، بالتالي التفريط بها. في تلك القنوات الالكترونية، يبدو المشهد أكثر سطوعا، فالجيل الجديد لم ينس قضيته، وكيف ينساها وهو ابن يومياتها، التي لم تزل راهنة وثقيلة كوطأة طازجة، ولكن ما اختلف هو طريقة التعاطي مع القضية، في ظل تعدد وتنوع الجبهات الالكترونية، التي تحتشد بهمم وطاقات خلاقة، تحمل أمانة النضال حين تأبى الجبال من “الهيبة” إلى سيرك “فيلق” سليماني الجوال!
رياضة تشليح وجوه
قد لا تحب الفقرة الثانية من خطاب السيد حسن نصر الله، التي أسهب خلالها في التحدث عن إيران ودورها وفضلها على القضية الفلسطينية، ولكنك ستتجاوزها متعمدا، كرمى لكل ما عداها، فمنذ الكلمة الأولى لشيخ المقاومة وحتى قفلة الخاتمة، وأنت تقفز بمرونة وخفة من نصر إلى نصر ومن وعد إلى وفاء بالوعد، وكلما أوشكت أن تقول للشيخ: يا شيخ سيبنا من إيران ولنبق في القدس، سبقك إليها، وهو يبشر بجماهير عربية وقواعد للمقاومة لا حصر لها في امتدادات جغرافية من سوريا ولبنان والعراق واليمن والبحرين وصولا إلى لندن وتغريبة الحرمين، فما الذي يميز هذا الخطاب عن سواه يا ترى؟
عداك عن اعتراف الشيخ بعفوية وصدق ووطنية الحراك الشعبي “أو ما يسمى بالربيع العربي”، والحرص على عدم التشكيك به، فإن الوعد بنصر فلسطيني جديد يقهر العملاء والأعداء، طالما أن الوجوه تعرت ليسهل فرزها وكشف نفاقها، هو بحد ذاته يحسم النتيجة لصالح المقاومة مجددا! حسنا إذن، لا حاجة لعينيك كي تبكي على خذلان العرب، في هذه المسابقة الماراثونية، ما دمت لن تحتاج سوى إلى يديك لتصفق للفائزين برياضة شلح الوجوه، وتحتفظ بميدالية المقاومة لـ”شاتاي أولسوي”، الممثل التركي الشهير بأمير، والحائز على جائزة أفضل ممثل عن دوره في مسلسل “الداخل” المقتبس من الفيلم الأمريكي “المغادرون” 2006، والمقتبس بدوره من الفيلم الصيني “شؤون جهنمية” 2002، والذي تم تصويره في أحياء وخرائب مدمرة، وأطلال متهاوية، وأزقة مهجورة ومهملة، في اسطنبول، تكرس لنفس درامي مقاوم، يلقي الضوء على الهموم الإنسانية المنسية، وراء مغريات درامية تافهة ورخيصة، منتصرا لدمه، قبل قلبه، غير مؤمن بالحب كعلاقة جنسية بحته بقدر ما هو تجربة ثانوية، لا تتحول إلى حقيقة راسخة إلا حين تنتهي بالموت… هنا فقط، تصير الحقيقة حقا، والإبداع مطلبا!