أنا غير أنا الذي تعرفون .. عبد الكافي عرابي النجار
وحدي هنا يا سادتي، خائب ساعة، وساعة طموح، أجترّ بؤس العالم مرّة، وأرتقي منازل النجوم أخرى، أجمع بعضي على بعضي في رحم زنزانة مظلمة، أراها يوماً قبري، ويوماً أراها مولدي.
يوماً أراها قبري فأشعر أنّني فيها كفرعون محنّط قد طواني الدهر منذ آلاف السنين، ميّت فيه بقايا حياة سالفة، يقتات على فتات الذكريات التي سمحت شقوق جدران فكري لها بالمرور، منتهى آمالي كسرة خبز يابسة تجود بها يد الجلاد، نسيت من أنا، نسيت إنسانيتي، أنا لا شيء، من أول يوم جاؤوا بي إلى هنا، من أولّ نظرة جلاد، تلاشت إنسانية أحلامي، اندثرت في المجهول بعد عصى الجلاد الأولى، وهو يصرخ هذه هي الحريّة التي عنها تبحثون.
أدمنتُ جلد نفسي كما أدمنتُ عصا جلادي، أقول لها ألا ترينَ أيتها الحمقاء الجاحدة إلى أيّ مصير دفعت بي، مالي ولهذا الهُراء الذي كنت تبثين سمومه فيّ صباح مساء، ماذا تريدين؟ ألم يكن يكفيك أن تعيشي كما يريدون، تأكلين وتشربين وتسهرين على برنامج (الشرطة في خدمة الشعب) وتنتشين حين يقول المجرمون الصغار المساكينُ: إنّهم نادمون. أم نسيتِ يوم الثلاثاء و(حكم العدالة) والرائد هشام والمساعد جميل، وأجمل ما في الأمر أنّ اسمه جميل.
ألم تكوني تذهبين إلى الملعب وتشاهدين فريقك الذي تعشقينه بجنون، وتشتمين حكم المباراة وتصرخين بلا حسيب أو رقيب.
ألم تشتري سيّارة منذ عام، صحيح أنّها ليست حديثة، وأنّ ثمنها كان ميراث الوالدين اللذين كانا يتمنيان أن تشتريها قبل موتهما طمعاً بنزهة أسبوعية، ولكن كيف يتحقق ذلك إذا لم يموتا وترثين، ألم تعلمي أنّه في كثير من دول العالم يحلمون بدرّاجة، ها أنت برعونتك خسرتيها، وخسرت البيت والعمل والراتب الذي كان يجود به عليك القائد، وها أنت على وجهك في بقاع العالم تهيمين، والكدر تشربين. آه منك، ماذا أعدّد لك من نتائج هُرائك الملعون، ويحك ثمّ ويحك ثمّ ويحك.
ما يضيرك أن ترددي نشيد البعث صباح مساء، وأن يختار لك القائد نوع اللباس المناسب، وأن يُحجر عليك الكلام في السياسة وقضايا الأمّة، أليس هناك فضاء واسع للكلام في غير هذا، تحدثي عن الطقس وعن أخبار الكواكب والمجرّات والزلازل والبراكين وأخبار الفنانات والموضات. ماذا نفعك الكلام عن الحريّة والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان؟!
نصف هؤلاء الناس الذين كنت لحقهم تصرخين، وما زلتِ هنا من أجلهم تعذّبين، يأكلون ويشربون وينامون وينجبون أولاداً، ويذهبون إلى أعمالهم صباحاً، ويتنافسون للحصول على ربطة الخبز وجرّة الغاز، ويرقصون في الساحات إن طُلب منهم، ويدبكون فرحين بقتلك واعتقالك وتشريدك، ويتغنون بانتصارات القائد على المؤامرة العالمية التي حاكها علي فرزات ومالك جندلي وعبد الكافي سويد وعبد الباسط الساروت وفدوى سليمان.
ويوماً أرى زنزانتي مولدي، أشعر أنّها شهادة ميلادي الجديد، أنا غير أنا الذي تعرفون، أنا واحد ثان، ولدتُ هنا من جديد، محطمّاً قضبان زنزانة الهباء التي قذفوا فيها فكري وعقلي، مدمّراً أغلال ذاتي، ساخراً من شعاراتهم الجرباء، تسبح روحي في فضاءات الزمن القادم، زمن بلا سجّان بلا آهات بلا طغاة.
أُراني هنا أسمو على ضيق المكان وظلمته، أرى فيه فضاء حرية وطني الأسير، أرى فيه ضياء ينير عقول الخانعين الذين استعذبوا عيش العبيد، فيذيقهم طعم إنسانيّة
عزيزة، لا تقبل الخضوع إلا لباريها الذي خلقها وسوّاها وسما بها وكرّمها، لعلهم إذا ذاقوها عرفوا العلقم الذي كانوا يتجرّعون.
أُراني في زنزانتي هذه حرّاً، تعيش روحي بعيداً عن طين حضيضهم الملعون، حضيضهم الذي يشترون العبيد ببقاياه، أشفق على المنافقين الذين يسبّحون بحمد القائد ويمجدونه، أقول في نفسي يا تُرى ماذا يقولون عن أنفسهم حينما يختلون بها بعد عودتهم من حفل أنفاسهم فيه نفاق، ونظراتهم فيه نفاق، وحروفهم فيه نفاق، ناهيك عن غنائهم ورقصهم ودبكتهم.
أُرى وجودي في زنزانتي هذه لبنة في بناء وطن جديد، وطن للجميع، لا تستبيحه أسرة أو طائفة تذل النّاس وتستعبدهم بلقمة الخبز وحليب أولادهم، وتمنّ عليهم ليل نهار سخاء القائد وعطاءه في تركهم يستنشقون الهواء، وتحذّرهم الإسراف في ذلك والتبذير.
حتى لو قتلوني وألقوني في حفرة كالقبر، وكتبوا على شاهدتها رقماً بدل اسمي، لن أصير هباء، ولن أتلاشى، سيزهر موتي ويثمر آمالاً وأمانيّ بفجر جديد في قلوب اليتامى والثكالى والمعذبين والمصابين والمشردين.