فرنسا بين تحدي الأمن وتأمين التحدي .. بيير لوي ريمون
قد يبدو هذا العنوان غريبا، لكن لا بد من أن تزول مواطن الاستغراب، إن كانت كذلك، بعد التفسير. موضوعنا مشروع قانون الأمن الشامل، الذي تخطى التداول بشأنه حدود فرنسا، في سياقٍ ربطه الكثيرون بمعضلة السترات الصفراء، وانطلاق ضبابية، في حينها، اكتنفت ما نعته المتخصصون بـ«نهج ضبط النظام».
تعود الإشكالية إلى طرح نفسها في سياق مختلف، سياق الاعتراض على نص قانون ينظر إليه كأداة لمصادرة الحريات.. فلنحاول في هذا المقال الابتعاد عن المزايدة الكلامية، والتوقف بدقة عند المقاصد المتوخاة من هذا المشروع.
أولا، من الأساسي التذكير بأننا في الوقت الراهن نتحدث عن مشروع قانون، وليس عن قانون مرّ من أمام غرفتي الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ فنال التصويت ووقع تأريخه بلا رجعة. العكس تماما هو الذي يحدث، إذ تستعد الغرفة السفلى، مجلس الشيوخ، حسب كل الترجيحات، لإعادة كتابة المادة الـ24 لهذا القانون، وهي المثيرة للجدل.
ما هو المتداول إذن؟ الأمر أصلا يتعلق بتقاسم الصورة في عصر سيادة الصورة.
بالتأكيد، الصورة ذات حدين، حد واصل يسمح بمعاينة مواطن الخلل لإصلاح ما يستدعي الإصلاح، لكنّ للصورة أيضا حدا فاصلا يحولها إلى أرض مستباحة للتجاوزات، ولا يحسم جديا بين حد الوصل وحد الفصل سوى التوازن.
أجل.. وحده التوازن بين حق الصحافي والمواطن في تخزين صور لتجاوزات قد تحدث في مظاهرات، وحق الشرطي الذي يؤدي واجبه، ولا يرتكب تجاوزات في حماية نفسه من القدح والتشهير، وحده التوازن بين المشهدين يسمح باستتباب الأمن، وعودة التهدئة، حينها يتلاشى حقل الألغام لأن حينها منسوب المزايدات قد انخفض، وقيم الديمقراطية قد علا شأنها بلا نقاش. لكن، كيف نضع نهاية للمزايدة ونعيد الاعتبار لقيم الديمقراطية في الآن معا؟ مرة أخرى، بتحقيق التوازن بين الضامن الأخلاقي وضمان الحريات الأساسية. هنا نفهم العلاقة المفصلية بين ما سميته بتحدي الأمن، وأمن التحدي. فتحدي الأمن ينحرف عن الضابط الأخلاقي، لأنه يحرف المظاهرة عن رسالتها، بينما تحرف تجاوزات أفراد قوات الأمن إن حدثت، قدرة المتظاهرين الشرعية على تحدي توجهات الحكومة التي لا تناسبهم، أي تأمين هذا التحدي. هنا يبرز توازن جديد بين احتكار شرعية العنف من جهة، واحتكار شرعية التحدي من جهة أخرى. فاحتكار شرعية العنف، أو احتكار العنف الشرعي، كما سماه ماكس فيبر مسألة معروفة لن نعود إليها، إنها تعبر عن حق تدخل الدولة بواسطة قوات أمنها لمنع الفلتان الأمني من الحدوث.
أما ما سميته باحتكار شرعية التحدي، فهو جوهر المسألة، الذي يدستر حق المتظاهر في مجابهة الحكومة بآليات المواجهة الديمقراطية ولغتها. وحق التصوير آلية من هذه الآليات، ولفظ من ألفاظ هذه اللغة.
وقد اعترف رئيس الجمهورية بذلك، هو الذي ميز أيضا بين عنف بعض الشرطيين المنحرفين عن المسار الشرعي، وعمل الشرطة كمؤسسة ضامنة للأمن وبالتالي لحق التظاهر الآمن والمؤمن.
عادت أيام السبت في فرنسا أسيرة فكي كماشة الأمن وتأمين التحدي، ولا زوال ممكن للإبهام والالتباس، من دون تجديد التأكيد على أن أطراف العقد الاجتماعي جميعهم أحرار وسواسية.
باحث أكاديمي وإعلامي فرنسي