تزوير الوثائق والشهادات ضرورة أم جريمة
لم يعد خافياً على أحد انتشار ظاهرة تزوير الوثائق والشهادات الرسمية السورية، بل بات الأمر شبه علني، فصرنا نجد الإعلانات الصريحة على صفحات برامج التواصل الاجتماعي كـ (الفيسبوك) وإخوانه، حتى وصل ببعض الصحف غير الرسمية الصادرة عن سوريين في تركيا إلى إدراج إعلانات التزوير في صفحاتها، وصار كثير من السماسرة يعرضون على الراغبين قوائم بأسعار الشهادات التي يطلبونها، وقد اشتدت حدة التنافس فيما بينهم لجلب الزبائن، ممّا أثّر على الأسعار التي انخفّضت بشكل كبير بعد أن كانت خيالية في وقت مضى.
جريمة قديمة جديدة
جريمة تزوير الوثائق الرسمية والشهادات ليست وليدة الظروف التي يعيشها السوريون هذه الأيام فقط، بل هي قديمة ولم يخلُ منها زمن من الأزمان، وخصوصاً في ظل نظام الأسد الفاسد، ولكنّها ازدادت بعد الثورة زيادة مخيفة لعدم وجود رقابة ومحاسبة، بالإضافة إلى استغلال المزورين لحرية النشاط و والتسهيلات الممنوحة من قبل الحكومة التركية للسوريين. علماً أنّ هذه الجريمة موجودة في كلّ دول العالم تقريباً، ولكن بنسب متفاوتة، ولقد استطاعت كثير من دول العالم الحد من خطرها وانتشارها بتطوير الوثائق الصادرة فيها بإضافة رموز وشعارات معقّدة وغير مطبوعة بطابعات عادية متوفرة للعامة، واستخدام نوعيات خاصة من الورق، يصعب الحصول عليها.
محترفون وهواة
لا شكّ أنّ التطور التكنولوجي جعل أمر التزوير سهلاً نسبيّاً، فإتقان العمل على برنامج (فوتو شوب) مع طابعة ليزرية ملونة حديثة كفيل بتقليد أية شهادة، وخصوصاً شهادات الجامعات السورية التي لم يلحقها أي تطور تقني وأمني منذ زمن بعيد، حتى أصبحت كما قال بعض المختصين: “بطاقات الدعوة لحفلات الزفاف أكثر تقدماً وتعقيداً منها” بالإضافة إلى فساد كثير من موظفي مؤسسات حكم آل الأسد، بحيث يبيعون الوثائق الفارغة بدون معلومات فيها، وبعدها يتم طباعة المعلومات، كالاسم و الميلاد و…إلخ وهذا لا ينفي وجود بعض الشهادات التي زوّرت بشكل بدائي بحيث يستطيع اكتشافها الإنسان العادي بقليل من التدقيق في البيانات.
لمَ يلجأ المهجّر إلى تزوير الوثائق؟
عند سؤالنا لأحد السوريين في مرسيين عن رأيه في الأسباب التي تدفع المهجّر إلى تزوير الوثائق، كان الجواب: أنّ طالبي الوثائق المزورة صنفان:
أحدهما: إنسان فقد أوراقه الرسميّة وتقطّعت به السبل بعد قيام الثورة، ولا يستطيع تدبير شؤون حياته بدون وثائق تثبت هويته، في ظلّ عدم استطاعته الحصول على أوراق رسمية بديلة، مثل هذا الشخص يضطر للذهاب إلى هؤلاء المزوّرين ليتحصّل على جواز سفر أو هويّة شخصيّة وهؤلاء يستغلون ظروفه فيطلبون منه مبالغ طائلة تزيد مصائبه مصيبة جديدة.
والثاني: شخص فاسد وجد في الفوضى التي حصلت بعد الثورة طريقاً سهلاً ليحصل على ما ليس حقّاً له عن طريق تزوير وثائق تعطيه مؤهلات لا يملكها، وتمنحه حقوقاً ليست له، ومثل هذا مجرم يستحقّ العقوبة.
آثار خطيرة ونتائج كارثية
عند سؤالنا أحد المختصين التربويين عن آثار انتشار ظاهرة التزوير و نتائجها، قال:
بالنسبة لأصحاب الشهادات الثانوية المزوّرة فأول جرائمهم أنّهم يحجزون مقاعد جامعيّة ليسوا مستحقين لها، ويحرمون الطالب الذي تعب وجدّ حتى تحصّل على شهادته بشكل قانوني منها، وعلى أدنى حد يتساوون معه في فرصة المنافسة على المقعد الجامعي، وهذا ظلم كبير يثير سخط الطلاب الملتزمين لقواعد الدراسة، وربّما كان سبباً في إحباطهم.
أمّا بالنسبة للشهادات الجامعية فالمسألة أخطر بكثير، لأنّ الحاصل على شهادة ثانوية مزوّرة على الغالب لن يستطيع إكمال دراسته الجامعية لأنّه لا يملك مؤهلات ذلك، أمّا التخريب الذي سيمارسه صاحب الشهادة الجامعية المزورة الذي ينتحل صفة الخريج فهو أكبر بكثير، فهو بالإضافة إلى أنّه سيأخذ فرصة غيره في العمل، فإنّه سيفسد في المجال الذي تخصص فيه، لأنّه لن يستطيع القيام بواجب لا يملك مؤهلاته وكفاءاته اللازمة، وهذا سينعكس على نطاق عمله فساداً وتخريباً.
والمشكلة الأكبر تكمن في السمعة السيئة التي ستنتشر عن الجامعة أو الجهة التي تم تزوير شهاداتها أو وثائقها. وهذا يفسّر تراجع ترتيب جامعة دمشق عالميّاً من (3400) في منتصف عام 2012 إلى (5070) في عام 2014 على التصنيف العالميّ للجامعات، الذي يعدّه موقع “ويب ماتريكس” الإسبانيّ .
التزوير والقانون؟
إذا لم يكن هناك آليّة فعّالة للوصول إلى المزوّرين لإيقاع العقوبة بهم – علماً أن جميع القوانين تعاقب على جرم التزوير- كما يقول أحد القانونيين الذي يبين أن تزوير أوراق رسمية يمثل جرماً جنائي الوصف، يعاقب عليه بالأشغال الشاقة المؤقتة لخمس سنوات، كما يعاقب الفاعل بجرم استعمال المزور (أي فقط من يستعمل الشهادة المزورة) بالحبس ثلاث سنوات، لكن استغلال الفراغ و عدم وجود جهة تطبق القانون مع واقع غياب الدولة في سورية شجع الفاسدين و الانتهازيين على هذه التجارة الرابحة.
كما بيّن أنّ المشتري للوثائق المزورة مشترك بالجرم لأمرين، الأول: حصوله على وثائق غير قانونية يعاقب على حيازتها القانون، والأمر الثاني: أنه لم يبلغ على تلك “العصابات” أو سماسرتها للجهات التركية كي تلاحقهم لينالوا عقاب.
التزوير والشريعة
عند سؤالنا أحد علماء الشريعة الإسلامية عن حكم التزوير قال:
أولاً ينبغي أن نعلم أنّ التزوير أحد الذنوب الكبائر التي نهى عنها الشرع، وهو يندرج تحت شهادة الزور التي قال الله تعالى فيها: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)[الحج:30] وقال صلى الله عليه وسلّم في حديث الصحيحين: (ألاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟)….. وذكر فيه: (ألا وقَوْلُ الزّورِ أَوْ شَهَادَةُ الزّورِ). وقد جاء في الموسوعة الفقهية: التزوير يشمل التزوير والغش في الوثائق والسجلات ومحاكاة خطوط الآخرين وتوقيعاتهم بقصد الخداع والكذب.
ويندرج أيضاً تحت مفهوم الغشّ، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم:[من غشّ فليس منّا] رواه مسلم. كما يندرج في التشبّع الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم:( الْمُتَشَبِّع بِمَا لَمْ يُعْطِ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُور) متفق عليه. قال النووي في شرح مسلم: مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده، بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده، يَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس، وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور.
ولكن ينبغي أن نفرّق بين حالتين
حالة الشخص الفاسد صاحب النفس المريضة الذي يريد الحصول على ما ليس حقّاً له عن طريق تزوير وثائق تعطيه مؤهلات لا يملكها، وتمنحه حقوقاً ليست له، ومثل هذا مجرم مرتكب لكبيرة هي من أكبر الكبائر يستحقّ التعزير. وأشنع منه وأشدّ قبحاً من امتهن التزوير وجعله مصدر رزق له.
أمّا الحالة الثانية وهي فيما إذا كان الشّخص لا يستطيع التوصل إلى حقّ مشروع له إلا بهذه الأوراق، مع تعذّر الحصول عليها من الطريق الشرعي، كمن يريد إخراج بديل لهويّته الشخصيّة التي تلفت أو احتُجزت أو جواز سفر وهو بحاجة شديدة إليهما لتسيير أمور حياته الأساسية، فالظاهر أنه يجوز له تزوير هذه الأوراق، والإثم هنا يقع على من حال بينه وبين الحصول عليها من طريق مشروع. ولكن بشرط أن يتلفها بعد الوصول إلى غرضه، ولا يستعملها أي استعمال آخر ليس مضطراً له، حتى يتسنّى له استصدار واحدة من طريق مشروع. وأولى منه من كان يخاف على نفسه من القتل أو الاعتقال أو ذهاب عضو … فيضطر إلى تزوير دفتر خدمة العلم أو وثيقة تسهيل مرور عبر الحواجز أو غيرها ممّا يؤدي الغرض المطلوب.
خاتمة وحل
وفي النهاية ربما يكون الحل العملي لظاهرة تزوير الشهادات والوثائق في تطبيق نظام معقّد عبر تقنيات ووسائل حديثة بالتعاون مع جهات متخصصة عالمية لها خبرة في منع التزوير عن طريق «العلامات الذكية» بحيث تضيف رموزاً وشعارات معقدة وغير مطبوعة بطابعات عادية متوفرة للعامة، وتستخدم نوعيات خاصة من الورق يتم من خلالها منع وتلافي أي حالات تزوير مهما كانت الجودة أو دقة التزوير.
ولكنّ الحلّ الحقيقي يكون بإعادة تربية الإنسان وبنائه بناء سويّاً، بعد التخريب الذي تعرّض له خلال خمسين من حكم البعث وآل الأسد، وإعادة إحياء الضمير في داخله بحيث يمتنع عن فعل ما يضرّ بالمجتمع ويلتزم أحكام الشرع والقانون طواعية ولو لم تطاله يد القانون.
عبدالكافي عرابي النجار | مصدر



