رحلة في عقل ثائر سوري: لكل من يتسائل عن ضعف التجاوب مع الحلول المقترحة للمسألة السورية

 

فجّرت الثورة السورية مكنونات المتظاهرين ليختبروا للمرة الأولى مشاعر البوح بكلمات وحروف لطالما بقيت حبيسة أنفسهم, فكانت تخرج للمرة الأولى, “الصراخ” بحد ذاته منح المتظاهر شعور لايوصف فرغ فيه شحنة من الطاقة السلبية الحبيسة داخله والمتولدة من الكبت والقهر والغضب من الوضع العام الذي كان يعيشه.

 

لقد صدق المتظاهر مع نفسه في هذه اللحظات للمرة الأولى لتنسجم عواطفه مع أفكاره, فتشكلت للمرة الأولى في نموذج رضى نفسي وتعبير لفظي يصيغه العقل حلماً بمستقبلٍ أفضل, التفريغ النفسي مثّل للمتظاهرين السوريين إخراجاً لمكنونات كان يستحيل البوح بها قبل الثورة بهذه الصراحة, والتعبير اللفظي الذي تمت صياغته على شكل شعارات مثّل مدخلاً فكرياً جديداً تلقاه المتظاهر صراحةً وبدون أي عواقب أو قيود, ليتحول عقل المتظاهر إلى وعاء فكري مملوء بأحلام ومطالب, ترافقه نفس راضية متصالحة مع ذاتها.

الأحلام والمطالب التي بدأ العقل يضع لها أطراً, ويشكل لها حدود ومعالم بدأت تتحول مع مرور الوقت إلى قيّم وعقائد يموت من أجلها أقرانه, ويتعرض في سبيلها أخرون لأشد أنواع التنكيل والتعذيب, هذه القيم والعقائد التي استمرت المواجهة معها بالحديد والنار بدأت تستقر أكثر وأكثر في عقلية الثائر كونها تصطدم بما هو صلب, ولا يتعامل معها أحد بمرونة, فلاتنفد إلى أي معابر أخرى ليجري الثائر من خلالها تعديلات عليها.

الأفكار المرسلة من قبل ثوار سورية ظلّت تُواجه بجدران اسمنتية صمّاء من الجميع, بمن فيهم المجتمع الدولي الذي دخل على الخط بعد فترة ليست طويلة, وفي هذه الحالة كان من الطبيعي على العقل البشري أن يقوم بتعديل مايتم إرساله كونه يلاقي عدم تجاوب إن لم نقل رفضاً واسع النطاق في خارج سورية, ويواجه بالحديد والنار داخلها, حيث من المعروف قدرة الإنسان على التأقلم والتغيّر والمرونة ضمن أي بيئة وفي ظل أي ظروف, إلا أن أمرين منعا هذا التغيير من الحدوث وكبحا جماح الإشعارات العائدة إلى العقل بعد طرحه لقيمه وأفكاره الثورية, ألا وهما:

المسألة الأولى: العقل الجمعي للثوار السوريين, الذين ارتضوا بأنفسهم واقتنعوا أنهم ليسوا على ضلالة, وبأن معتقداتهم لا تصل إلى درجة الهرطقة الفكرية, بل هي رغبة حقيقية في التغيير لدى مجتمع كبير من الناس, نبعت من سلسلة تاريخية من الأحداث الثابتة والمؤكدة والراسخة في عقل هذه الجماعة الكبيرة, وأكدتها معطيات الواقع السوري الذي أثقلت أعباءه الجميع.

المسألة الثانية: هي تراجع الأفكار المطروحة من قبل الثائر داخل عقله من مربع الفكرة والشعار إلى مربع القيمة والعقيدة, وهذا تغيير كبير أحدثته مجريات الثورة السورية, وطريقة التعامل معها, مما مكّن الثوار السوريين من امتلاك “عقيدة ثورية”, ومن المعروف أن التعامل مع العقائد صعب للغاية, وتغييرها يكاد يكون مستحيلاً.

ولم يقتصر الأمر على تحول هذه الأفكار المطروحة في بداية الثورة إلى قيم وعقائد ضمن مربعات العقل وتفاصيله, بل إن النفس التي كانت متصالحة مع ذاتها نتيجة تفريغ الشحنات السلبية المتراكمة من ترسبات واقع ماقبل الثورة, بدأت تتحمل ببرامج جديدة ذات مضامين “إيدلوجية” قادمة من مربعات العقائد ضمن العقل الثوري, يضاف إليها مجموعات جديدة من الكبت والحنق والشعور بالظلم, تعززها مشاهد العنف والدماء اليومية.

مؤخراً يأتي المجتمع الدولي بمحاولات لطرح حلول لـ”تحسين الوضع” في سورية ووقف الدماء, تضع هذه الحلول هدفاً لها: في وقف القتال والحفاظ على الأرواح وعدم تدمير مؤسسات الدولة, وكل تلك الأفكار التي من المفترض أن يبدي الإنسان ليونة كبيرة اتجاه آليات ووسائل الوصول إليها, إلا أن دعاة التغيير والحل يفاجئون باستجابة مختلفة من الثوار ذات ثقل معادي غالباً لمختلف الحلول المطروحة.

أصحاب الحلول عادة ما يتسمون بالبراغماتية, والدول الصديقة والحليفة وحتى المعادية تطالب الثائر بأن يكون أكثر برغماتية اتجاه الحلول المقترحة, دون أن يفهموا طبيعة العقل الثوري المحمل بإيدلوجيا ثورية ترسخت في نفس الثائر, ومن خصائص العقائد وطبيعتها الاعتيادية أن تكون ثقيلة الوزن والحركة, ممانعة لعملية التغيير الذي لايلبي طموحاتها ولا يماشي مبادئها.

هذا لا يعني أن كل طرح لحل أو تغيير سيواجه بنفس الطريقة بل إن كل طرح لحل أو نموذج تغيير لا يأخذ بعين الاعتبار المبادئ الأساسية لهذه “العقيدة الثورية” فسيبقى التفاعل معها ضعيفاً هامشياً وفي حدود المناورة لبعض سياسيّ المعارضة على أبعد تقدير.

هذه الجولة ضمن العقلية الثائرة تقدم تفسيرات حول ردات الفعل اتجاه مختلف الحلول المطروحة على الساحة, وإن إدخال تعديلات على مقترحات الحلول بما يضمن تحقيق بعض القيّم الثورية كالكرامة والحرية والعدالة وغيرها, بالإضافة إلى ضمان رحيل بشار الأسد ورموزه, هذه الإضافات ستحاكي العقل الثوري مباشرة في العمق, وتولّد استجابة سريعة وإيجابية ومرنة مع مختلف الحلول التي سيتم طرحها.

حمص | وليد فارس | 3-3-2016

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى