الجنسية الكويتية… بلادنا الخالية من الشوائب! … راشد عيسى

يتحدث تقرير جديد من الكويت عن سحب الجنسية من حوالى 37 ألف كويتي. ليس هذا الرقم هو الشيء الوحيد المذهل في الخبر، ولا الأسباب الواهية لسحبها، بل العبارة التي رافقت التقرير، وتنقل عن خطاب متلفز لأمير البلاد يعد شعبه بـ «تسليم الكويت لأهلها الأصليين، نظيفة، خالية من الشوائب التي علقت بها».
ورغم أن السلطات تعد بأن يجري التعامل مع النساء، ويشكلن 26 ألف امرأة على الأقل من مجموع المسحوب جنسياتهم، معاملة المواطنات الكويتيات، والإبقاء على مزاياهن الاجتماعية، باعتبار أن النساء سيبقيهن مع أزواجهن وأبنائهن وأحفادهن في البلاد، إلا أن أي قرار لم يصدر يستثنيهن من صفة الشوائب، التي تكدّر صفاء الجنسية.

إجراءات سحب الجنسية إذاً لم ترحم النساء اللواتي حصلن عليها بفضل زواجهن من كويتيين، حتى لو مرّ على الزواج بضعة عقود، وصار لهن أولاد وأحفاد: «لاحقونا، نحن الأمهات، أساس الأسرة ونواة المجتمع.. لم يأخذوا بعين الاعتبار أننا أمهات وجدّات أبناء هذا البلد»، تقول كويتية من أصل أردني فوجئت عندما جاءت تسدّد مبلغاً من بطاقتها الائتمانية أن بطاقتها لم تعد تعمل تبعاً لإجراءات سحب الجنسية! الظلم وصل حتى إلى الطريقة الفظة التي ينفذ بها الأمر الإداري.
حاصله أن أولئك الذين بذروا أو غرسوا غراساً للمستقبل، في البلد الذي عَرَفَ يوماً ديمقراطية عربية فريدة من نوعها، متّهمون بالافتقار إلى جذور راسخة هناك.
وإذا كان تعبير «الشوائب» ينطبق على أمهات الكويتيين، كما على أولئك الذين حصلوا على الجنسية تحت بند «الأعمال الجليلة» في المجتمع، فكيف بالمئة ألف «بدون» (ما يشبه مكتومي القيد في دول أخرى)، الذين يشي الاسم وحده بكمّ الاحتقار لهم. مع أنهم سكان هذه البلاد حتى من قبل إعلان استقلالها وتأسيسها في العام 1961.
هذا النوع من الخطاب الإقصائي لا يقتصر على دولة من دول الخليج العربي، فليست هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها عن تعبير «الشوائب» في وصف مواطني أو ساكني بلد، ولربما سمعنا ما هو أقسى من ذلك على امتداد العالم العربي. ففي معظم بلداننا هناك مجموعة حاكمة تمثل فئة مسيطرة ترى في نفسها، صراحة أو ضمناً، العرق الأنقى، ولها الحظوة وللباقين فتات الهوامش.
ففي الجزائر (على سبيل المثال لا الحصر) الجدل الآن على أشدّه إثر تصريحات مؤرخ وأستاذ جامعي جزائري قال إن الأمازيغية «مشروع أيديولوجي فرنسي – صهيوني». وصحيح أنه لا يوجد تهديد قانوني بسحب جنسيات الأمازيغ، لكن منطق التشكيك بالانتماء والولاء هو ذاته، فالآخر مزدوج الولاء في صيغة مهذبة، وفي صيغ أوضح وأكثر فظاظة صهيوني، رافضي، مجوسي، كردي، هندي، فلسطيني أحياناً (اُنظر إلى الفلسطيني حتى وهو في أعز أحواله، في الأردن على سبيل المثال، وفي أسوأ أحواله كما في لبنان)، هذا على الرغم من أن الأمازيغ جزء أصيل من نسيج دول شمال أفريقيا منذ ما قبل الفتح الإسلامي – العربي. بل إن حقيقة الجدل تدور حول إن كانوا سكان البلاد الأصليين.
وما دمنا قد وصلنا إلى شمال أفريقيا فلنعرّج قليلاً لاستكشاف نظرة مغايرة للتاريخ الإسباني، وتحديداً لتَعامُل هذا البلد مع مواطنيه «الغزاة» أو «الفاتحين».
استمعت أخيراً إلى بودكاست مطوّل مع الباحثة والمؤرخة الإسبانية المتخصصة في التاريخ الأندلسي أديبة روميرو سانشيز، مقابلة أجراها «بودكاست مغارب – الجزيرة»، وفيها تشرح الباحثة رؤيةً فريدة تستغرب كيف تَعامَلَ البلدُ مع مواطنيه، عندما طردهم واستولى على أملاكهم وأطلق عليهم محاكم التفتيش، الفريد في الأمر هو النظر إلى العرب والمسلمين كجزء من نسيج وهوية إسبانيا، فإذا لم تكسبهم 800 عام من عيشهم في تلك البلاد هويتها فما الذي يستطيع؟ هم الذين بنوها ودخلوا في كل تفصيل في عمارتها ونسيج لغتها ومعتقداتها وطقوسها.. الباحثة تدعو إلى ما قد يستغربه العرب والمسلمون المعاصرون أنفسهم، الذين أقصى ما يحلمون به اعتبارهم فاتحين لا غزاة، أي أنهم بكل الأحوال «آخرون» لا ينتمون إلى نسيج شبه الجزيرة الإيبيرية.

تصل الباحثة، المدهشة حضوراً وثقافة، في دعوتها إلى النظر إلى سكان شمال أفريقيا (أولئك الذين ينظر إليها اليمين الأوروبي باحتقار ويدعو إلى طرد بقاياهم وإغلاق محالهم)، وجنسياتهم المغاربية على أنهم أغيار يجب احتقارهم، تطلب الباحثة وتذكّر بأن هؤلاء، جزءاً منهم على الأقل، هم مواطنونا الذين طردناهم بدءاً من العام 1492، ما يتطلب تعاطفاً وحباً أكبر تجاههم.
في هذا العالم الفسيح، الذي باتت أنجح المجتمعات وأكثرها تفوقاً وسعادة واهتماماً بحقوق الإنسان تلك التي انْبَنَت من عدد لا يحصى من الأعراق والأديان والمعتقدات، من الولايات المتحدة، إلى بريطانيا وفرنسا، حيث اغتنت بكل أبنائها، مهما ادعى اليمينيون والمتطرفون، في هذا العالم الشاسع هناك من يدعو ويصرّ على إغلاق جنسية عند حدود 1.545 مليون نسمة (عدد حملة الجنسية الكويتية حتى بداية عام 2024)، اطرح منها الآن 37 ألفاً، والحبل، على ما يبدو، على الجرار.
إذا كان هذا هو حال الكويت مع مواطنيها، وأمهات مواطنيها، فسيصبح من النافل السؤال عن مصير نصف مليون فلسطيني سكنوا هذا البلد، أحبّوه، وبنوا فيه، وطالما تغنوا به.
تتعامل الدولة هنا مع الجنسية بوصفها أداة سياسية، لترجيح انتخابي، لتغليب فئة على أخرى، أداة تطهير اجتماعي أو عرقي أو أيديولوجي، وبوسع هذا أن يذهب إلى أبعد مدى، إن دعت الحاجة إلى ذلك يوماً.

 * كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى