
الاعتصام الأخير : من ثقافة رد الفعل إلى ضرورة البناء والانضباط … نزار الطويل*
اعتدتُ أن أنظر إلى أي حراك اجتماعي من زاوية وظيفته في إعادة إنتاج الدولة والمجتمع، لا من زاوية الانفعال اللحظي أو الصخب الإعلامي. ومن هنا ، أجد أن الاعتصام الأخير قد كشف عن مجموعة من الاختلالات البنيوية، وأظهر الحاجة الملحّة لإعادة توجيه البوصلة المجتمعية نحو الإنتاج والبناء والانضباط، بدلاً من استعادة الماضي وجراحه، دون نسيان الحق والعدالة.
استطاعت قوى الأمن الداخلي، بعد يوم طويل، أن تضبط الأمن وتؤمن مكان الاعتصام، في غضون ساعات قليلة، تلقت الحكومة رسائل تهنئة دولية، كان أبرزها من مبعوث الأمم المتحدة، تشيد بقدرتها على ضبط الشارع وإدارة الحدث دون انفلات.
هذه الرسائل تُوظَّف عادة لتعزيز شرعية السلطة، وتؤكد قاعدة أساسية في السياسة: الأقوى ليس من يصرخ أكثر، بل من يُدير المشهد بذكاء .
مبادرة فارغة من المعنى الوطني
إن الكيفية التي ظهرت بها الطائفة أمام السوريين والعالم كانت صادمة. فبغض النظر عن نية أصحاب الاعتصام، بدا الحدث وكأنه مبادرة فارغة من المعنى الحقيقي، تُقاد من الخارج، وتُغطّى إعلامياً من قنوات رسمية وبحماية حكومية، وترفع شعارات لا تمتّ بصلة إلى المطالب الوطنية الجامعة.
فبدلاً من أن يظهر المجتمع بوصفه جسداً منظّماً قادراً على التعبير الرشيد، ظهر مشتتاً يرفع شعارات طائفية، ويغيّب العلم الوطني، ويعيد إنتاج الانقسام الذي نحاول جميعاً الخروج منه.
هذا ما دفع كثيرين إلى النظر للاعتصام باعتباره ردّة فعل مسيسة قاصرة لا خطوة إصلاحية حقيقية.
وهنا تظهر مسؤولية النخب : لا يمكن لمجتمع خرج من حرب أن يمضي نحو المستقبل بالارتجال أو بالعاطفة، بل يحتاج إلى قيادة فكرية وسياسية تُدير غضبه وتوجهه نحو البناء، لا أن تنجرّ خلفه وتزيد من تشتته.
أزمة التمثيل وغياب الوعي التنظيمي
تشير المؤشرات الرقمية إلى أن نسبة المشاركين في الاعتصام لم تتجاوز 5 بالألف من أبناء الطائفة. هذا الرقم يعكس حقيقة أن ما جرى لا يمثل المجتمع، ولا يعبّر عن موقفه العام، ولا يصلح أساساً لبناء خطاب سياسي أو تفاوضي. إن الحركات التي تُبنى على أقلية ضئيلة دون سند مؤسساتي أو اجتماعي تتحوّل سريعاً إلى عبء على أصحابها، وتُستخدم ضدهم في الفضاء العام لتشويه صورة المجتمع ككل.
لقد قلت سابقاً وأكرر بأن مجتمعات ما بعد الصراع – وخصوصا التي كانت جزء منه – تحتاج إلى الانتقال من ثقافة ردّ الفعل إلى ثقافة الفعل المنظم.
لا يمكن لمجتمع يسعى للنهوض أن يبقى أسيراً للذاكرة الجريحة تُستعاد كلما غاب الوعي التنظيمي. يجب أن نكون فاعلين في البناء لا معاول هدم.
الطريق نحو المستقبل : الانضباط والإنتاج
إن الانتقال الضروري لمجتمعات ما بعد الصراع يتطلب تحولاً جذرياً في آليات التفاعل الاجتماعي والسياسي. يبدأ هذا التحول بضرورة تبني خطاب يضبط الانفعال، ويعمل على تحويل الغضب المجتمعي إلى طاقة إنتاجية موجهة نحو البناء لا الهدم.
ويجب أن يترافق ذلك مع ترسيخ وعي سياسي ناضج، قادر على التمييز بوضوح بين الاحتجاج الذي يصنع أثراً إيجابياً حقيقياً ويدفع نحو الإصلاح، وبين الاحتجاج الذي يفتقر إلى التنظيم ويصنع أزمة جديدة تزيد من تعقيد المشهد.
وعلى المستوى العملي، لا بد من إطلاق مسار اجتماعي يعيد الناس إلى العمل والإبداع والمشاركة الفاعلة في التنمية،
بدلاً من الانجرار إلى ساحات الانقسام والفرقة. ولضمان استدامة هذا المسار، يجب العمل على بناء مؤسسات مجتمعية تمثل الناس تمثيلاً حقيقياً وفعالاً، بدلاً من الاعتماد على قادة افتراضيين يقيمون خارج البلاد أو يستثمرون في مخاوف الناس وقضاياهم، مما يضمن أن تكون القيادة نابعة من الداخل ومسؤولة أمام قواعدها.
إن ترسيخ الوعي وبناءُه أصعب من بناء الحجر، لكنه الطريق الوحيد لعبور المرحلة. لا أكتب هذا النقد رغبة في جلد الذات، بل لأن مسؤوليتنا – نحن أبناء التجربة الثورية والميدانية – أن نقول الحقيقة مهما كانت موجعة، فالمجتمع الذي لا يصحّح مساره محكوم بتكرار الأخطاء نفسها.
بقدر ما نحمل من جراح، نملك القدرة على النهوض، لكن إعادة النهوض لا تبدأ بالمظاهرات ولا بالاعتصامات العشوائية، بل بالعمل المجتمعي الذي يعيد للناس قيم الإنتاج والانضباط والعمل.
ما مضى لا يجب أن يكون ساحة نعود إليها كلما عجزنا عن بناء الحاضر، فالدول لا تُبنى بالشعارات، بل بالوعي، والتنظيم، والأخلاق العامة، والإرادة المشتركة.
إن مسؤوليتنا اليوم قبل الغد أن نعيد المجتمع إلى مساره الصحيح؛ مسار المستقبل لا الماضي، ومسار البناء لا الندب، ومسار الدولة لا الفوضى.
.
.



