الواقع السوري ومكوناته الاجتماعية .. النقيب رشيد حوراني

 

يتميز المجتمع السوري بالانفتاح والاعتدال والبعد عن التعصب والانغلاق عبر التاريخ ، الذي يشكل من الناحية الدينية  المسلمون بكل طوائفهم ومذاهبهم بحدود 90% من تعداده العام البالغ 23 مليونا، يشكل السنّة لوحدهم بحدود 72% من السكان، وهم الطائفة الأكبر، أو ما يسمى بالأكثرية، أما العلويون فيشكلون بحدود 12% وتشكل باقي المكونات المصنفة كإسلامية بحدود 6% تتوزع بين الدروز والاسماعيليين والشيعة والمرشديين… أما المسيحيون فيشكلون بحدود 10% من السكان، موزعين على 11 طائفة أكبرها طائفة الروم الأرثوذوكس التي تشكل بمفردها أكثر من ثلث عدد المسيحيين، أما من الناحية القومية يشكل العرب أغلب السكان بنسبة 80% تقريبا، يليهم الكرد بنسبة 15% تقريبا، والنسبة المتبقية يتقاسمها الآشوريين والأرمن والشركس والتركمان وبضعة قوميات أخرى صغيرة جدا.ffff

و لا شك أن تعدد المكونات وتنوعها في الدولة الواحدة هو مصدر خير وغنى ثقافي ومعرفي وروحي للبلد، ويسهم في ترقّيه ودفعه إلى الأمام، ومن يحدد هذا المسار الإيجابي لتلك المكونات على اختلافها وغناها هو طريقة السلطات الحاكمة في إدارة البلد وفي التعاطي مع مكوناته، فإذا أحسنت السلطات في ذلك تصبح التعددية نعمة على البلد، وإذا فشلت تنقلب إلى نقمة.

في الحالة السورية نرى أن سورية بعد الاستقلال عن فرنسا عام 1946م عاشت أفضل أيامها على صعيد تأسيس وبناء الدولة الوطنية والوصول إلى مرحلة الشعب بمفهومه السياسي الحديث، والذي تطغى فيه الهوية الوطنية على كل هوية أخرى (المذهب أو القبيلة أو العائلة ) حتى مجيء البعث إلى السلطة في العام 1963م ، رغم ما شاب تلك الفترة القصيرة من انقلابات ونكسات، وانعكس ذلك إيجابا على طبيعة العلاقة بين المكونات، وهنا لا بد لنا أن نسوق بعض الأمثلة ذات الدلالة، فمثلا في الانتخابات البرلمانية السورية عام 1954م فاز  تنظيم الإخوان المسلمين بأربعة مقاعد من أصل 140 مقعدا فازت بها الأحزاب العَلمانية المختلفة، أي أن السنة، وهم الكتلة الانتخابية الرئيسة، أعطوا أصواتهم لقوى وشخصيات عَلمانية وليس لتنظيم الإخوان المسلمين، وفي هذه الانتخابات أيضا فاز السوري الكردي الأصل خالد بكداش بنتيجة باهرة عن مدينة دمشق بكل مكوناتها، وبأصوات الكتلة الانتخابية الأكبر، أي العرب السنة، كما تم اختيار السوري المسيحي فارس الخوري لرئاسة المجلس النيابي ولرئاسة الحكومة عدة مرات.

يعبر ما سبق من أمثلة  وغيرها لا سبيل للإحاطة بها في معرض حديثنا هذا، ووقائع تاريخية في الحياة السياسية السورية عن تراجع تأثير العوامل ما قبل الوطنية، (الدينية والعشائرية والإثنية )، على حياة الأفراد وخياراتهم، وعن وجود حالة نهوض وطني وسلطات وطنية همُّها البلد ومصلحة البلد، وهي تدل أيضا، وبشكل خاص، على اعتدال وانفتاح الشعب السوري عامة ، والسنة الطائفة الأكبر بكل مكوناتها وبُعدها عن الانغلاق والتعصب.

وللوقوف على هذه الظاهرة لا بد أن نتطلع إليها ونعمل على دراستها من منظور علم الاجتماع ونظرياته التي تقدم بالدليل القاطع أثر الحياة السياسية وانعكاساتها على الحياة الاجتماعية لتُبين أن نظام الأسد الأب والابن في الوقت الذي كان يقدم صورته الكاذبة عما كان يسميه ” اللحمة الوطنية ” عمل على احتلال الدولة ومؤسساتها منذ استولى على السلطة عام 1970م، وجيّرها لخدمته، وصادر الحياة السياسية والثقافية والفكرية، وفتك بالمجتمع المدني ومؤسساته، وقضى على المنجزات الوطنية فترة ما بعد الاستقلال، وحول سوريا إلى سوريا الأسد ، ولخدمة هدفه في السيطرة على المجتمع وتطويعه استخدم بدهاء وحنكة بارعة يُشهد له بها، وسائل وأوراق عديدة من بينها ورقة المكونات، حيث تمكن عبر إدارته الأمنية المستبدة لهذه الورقة من ضرب المكونات ببعضها، وتعميق الاختلافات والتصدعات فيما بينها، وعدم القة فيما بينها ، وجعلها دائمة الحاجة إليه لحمايتها من الآخرين، في الوقت الذي كان يُبرز فيه للعالم حالة التلاحم الوطني والوئام والتحابب الذي يعيشه المجتمع السوري بمكوناته في ظل حكمه.

إلا أن نظام الأسد نفسه سرعان ما كشف عن زيف ادعاءاته وتناقضات سياساته التي لاهم لها إلا الحفاظ على بقائه وعائلته في السلطة ، فسارع منذ بداية الثورة في سورية في منتصف آذار 2011 على خطين متوازيين لإنهاء الحراك الشعبي الذي قام من أجل المطالبة بالحرية والكرامة، فمن جهة قام بتعبئة طائفية غير مسبوقة لضمان التفاف أبناء الطائفة العلوية حوله في جميع الظروف والأحوال باعتباره الخيار الوحيد أمامهم، وما دونه الموت أو الإذلال، ومن جهة ثانية اتهم من خالفه من باقي المكونات بالخيانةِ والعَمالةِ فمثلا اتهم السنة بشكل عام بتعاملهم مع المملكة العربية السعودية، واتهم التركمان بتعاملهم مع  الدولةِ التُركيةِ, بِالرغمِ من أنَّ التُركمانَ هُم مِن أكثرِ المُكوناتِ لِلمجتمعِ السوريِّ تَمسُّكاً بِوحدةِ التُرابِ السوريِّ وهُم الذينَ أَثبتوا خِلالَ العُقودِ الماضيةِ أنهُم أكثرُ هذهِ الفِئاتِ اندِماجاً ووطنيةً وأَنهُم لا يختلفونَ عن باقي فِئاتِ المُجتمعِ السوريِّ التي انتَفَضَتْ مِن أجلِ حُرِّيتِها وكرامتِها وحُقوقهِا الثقافيةِ المشروعةِ.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هل يأتي اليوم الذي يتهم فيه بشار الأسد المسيحون الذين ثاروا ضده ، أو بدأ صبرهم ينفذ كونه يحتفظ بهم كورقة ليس إلا بعمالتهم للغرب أو الفاتيكان الذي ناشده والجماعة الدولية العمل على وضع حد لأعمال العنف إذا ما حمله مسؤوليته عن العنف … هو ما ستجيب عليه القادمات من الأيام … و أظن ذلك سيكون لتسقط ورقة التوت الأخيرة عن نظام ما عرف يوما معنى للإنسان أو السلام .

 

 

 

 

 

حركة تحرير الوطن | مصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى