لماذا “الدبكة” لا الغضب بعد الضربات؟ .. راشد عيسى

تريدون تفسيراً لسرّ فرح النظام السوري وأنصاره بالضربات الأمريكية الأخيرة على سوريا، حيث عمّت حلقات الدبكة بعض ساحات مدنها، إلى جانب دبكات موازية على الشاشات والمنابر والأقمار؟ هذه عبارة لسينمائي النظام السوري الأبرز هذه الأيام جود سعيد، يختصر فيها بالقول “نحن تحت القصف الأمريكي، إذاً نحن الحق، والحق لا يموت”.
إنها عبارة خرقاء لا تستحق الجدل، إذ من السهل الرد عليها بأن “داعش” أيضاً كان على مرّ السنوات الفائتة الهدف الأول للقصف الأمريكي، لكنها تصلح عنواناً للعنتريات السائدة، والمكررة عبر التاريخ، حيث كل جريمة من نوع ما حدث في دوما، تلك المدينة المنكوبة بالكيميائي وقبله بالقصف الوحشي الروسي والأسدي، وبحصار مديد دام سنوات، يجري التمويه عليها بشعارات وطنية تقارع الاستعمار الغاشم، وتناطح الامبريالية وإسرائيل، وقد تكلّف نفسها عناء إطلاق صاروخين أو طائرة من دون طيار.
تحاول عبارة سعيد احتكار الحق، “نحن الحق” لمجرد استهداف الضربات الأمريكية لمنشآتنا! “نحق الحق” لمجرد أننا نقول عبارة “معنا الحق”! على ما تقول شخصية في فيلم سينمائي!
هناك مقولة أدبية شهيرة تصلح رداً على عبارة جود سعيد، وعلى ذلك النوع من “الوطنية” الذي يموّه الجريمة: “الوطنية ملاذ الأوغاد”.

سحر خليفة

استوقفني فيديو ظهر على فيسبوك مشارَكاً من قبل الروائية الفلسطينية الأشهر سحر خليفة. لافتٌ أنه منقول عن الشاشة الرسمية السورية، وهو مقابلة قديمة تعود للعام 2015، يبدو أنه يعاد استعمالها من قبل قنوات الممانعة بمناسبة الحديث عن كيميائي دوما.
تقول المذيعة لضيفها، المفكر الجزائري المزعوم يحيى أبو زكريا، إن القمة العربية ستناقش مسألة الكيميائي، فيبادر على الفور بالهروب إلى أسئلة من نوع “أين كانت الجامعة العربية عندما استبيح لبنان عام 2006؟ وعندما سالت دماء المسلمين، وعندما ذبح المصريون بالسكاكين، وعندما اجتاحت أمريكا الصومال، لماذا لم تتحركوا من أجل أطفال اللاذقية”.
ثم يتابع: “أتعلمين أن الإرهابيين عندما اغتصبوا العلويات والشيعيات وبعض المسلمات قطعوا صدورهن وحولوا قطعاً من صدورهن سبحة لهم؟ أين كانت الجامعة العربية؟”.
كل تلك الأسئلة ما هي إلا هروب من النظر بضمير إلى حقيقة أبسط وأشد وضوحاً هي ضحايا السلاح الكيميائي في سوريا. المحزن في كل تلك الأسئلة أنها تحمّل الضحايا السوريين البسطاء وزر كل مصائب العرب، اليوم وفي الماضي. الضحايا الذين فوق أنهم قصفوا حتى آخر نفس فيهم لا يريد أحد أن يعترف أنهم ضحايا، لا أكثر ولا أقل.
لكن في الواقع ما همّني ليس “المفكر” الجزائري، الذي راح يكرر أنه ابن مجاهد جزائري ولا يقبل الضيم، بل موقف الكاتبة الفلسطينية خليفة. رحت أتصفح مشاركاتها على فيسبوك التي تنوس فقط بين فيديوهات مماثلة، من بينها مقابلة مع النجمة المصرية إلهام شاهين تشد فيها على يد بشار الأسد وتقول إنه يحارب مجموعة من المرتزقة الإرهابيين، إلى جانب مشاركات تمجد بطولات الفلسطينيين أو تفضح ممارسات إسرائيل الوحشية.
وجدتني مرة أخرى أمام الخطاب ذاته، خطاب فلسطين الذي يشهر للتعمية والتضليل وتغطية جريمة أخرى.
من يقف مع قضية عظيمة وعادلة كقضية فلسطين يستحيل أن يقبل الظلم التاريخي الذي يتعرض له الشعب السوري.

تفضلوا على شرب الشاي

تقريران مصوران عرضتْها “سي ان ان” لمراسلتها أروى ديمون عند زيارتها لمخيمات الناجين من حصار دوما لعلهما من أجمل ما يمكن أن يقال عن ناجي مذبحة دوما الكيميائية.
لم تحمل المراسلة أجهزة معقدة أو عدّة تحليل مخبرية، ذهبت ومعها حواسها الخمس، وأسئلتها الصحافية المعتادة، لطفها الإنساني، ولغتها العربية البسيطة. تجولت في خيام اللاجئين، أشارت لحقائب الصغار: “هذه الحقائب تعود لملاذ وماسا، توأمين من دوما لهما من العمر سبعة أعوام”. ثم تعاين آثار الكيميائي في ملابس هؤلاء لتقول: لا تزال الرائحة قوية جداً، فلم يتسن لهم بعد غسل هذه الملابس”.
تتحدث عن حال الناس تحت الحصار الرهيب فتقول إنهم كانوا في حيرة في الملاجئ بين الموت اختناقاً بالكيميائي والموت على السطح بقصف الصواريخ. وهم الآن يعيشون “رفاهية الشمس في مخيمهم الجديد”.
“عندما نسألهم لماذا بقوا في الغوطة يقولون إنهم خسروا الكثير من حياتهم، والكثير من أحبائهم، وأرادوا التمسك بأي شيء يعرفونه. وهناك آخرون لا يملكون طرقاً للمغادرة مع أفراد عائلتهم كبار السن”.
تقرير تلك المراسلة منحاز حقاً، منحاز للإنسانيّ البسيط، الذي يمكن إدراكه بالعين المجردة، بعين الضمير غير الملوث بالمصلحة أو الطائفية أو الخوف.
ما أجملها تلك المراسلة وهي تضع لأحد التقريرين عنوان “تفضلوا لشرب الشاي”، كما تختم بالقول “كل العائلات التي تكلمنا معها عرضت علينا الضيافة والشاي، هذه هي ثقافتهم والإنسانية التي يتمسكون بها”.

دعوة رودجر ووترز

لم يفاجئني البتة (دعك من إحساسي بالقهر) فيديو المغني البريطاني وأحد مؤسّسي فرقة “بينك فلويد” الشهيرة، رودجر ووترز، متحدّثاً خلال حفلة أحياها في برشلونة عن كيميائي دوما، نافياً وقوع المجزرة الكيميائية، بل ويعتبر أن منظمة “الخوذ البيضاء” (الدفاع المدني) مزيفة من أساسها، معتبراً أن وجودها يقتصر على فبركة وبثّ بروباغندا لـ “صالح الإرهابيين”. لم يفاجئني ما دام هناك من أبناء جلدتنا، ومن هم أقرب كثيراً إلى الحدث، قد ملأوا الدنيا تشكيكاً بالمجزرة.
يائس بالفعل من أن يقتنع شاعر مثل نزيه أبو عفش ونظيره الفلسطيني زكريا محمد بالمجزرة الرهيبة، إنما يجد المرء أن لا بد للسوريين من دعوة المغني الثمانيني ووترز إلى مخيمات ناجي دوما على كأس شاي، عسى يعاين حكايات الضحايا، وأطفالهم وهم يلعبون لعبتهم اليومية المفضلة حينما يحفرون أماكن للنمل تحميهم في حال قصف كيميائي محتمل.
لست يائساً من ووترز، ولست يائساً من قدرة السوريين على دعوته.

 

 

 

 

 

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى