نهاية مملكة الرعب وبداية الدولة التي نستحقها … مرهف مينو

لم يَسقط نظام بشار الأسد حين تهاوت مؤسساته في الأيام الأخيرة، ولا حين انكشفت هشاشته الأمنية والسياسية. السقوط الحقيقي بدأ يوم اقتحم السوريون سجن صيدنايا، ذلك الرمز الأشد قسوةً في تاريخ سوريا الحديث، حيث شُيّدت “مملكة الرعب” على جماجم الأبرياء.

فهناك، داخل تلك الجدران التي لم تكن تُنتهك ولا تُناقش، ظهرت حقيقة الدولة التي بناها الأسد: دولة لا تحتاج إلى دستور ولا مؤسسات، بل إلى مسالخ بشرية تُدار بعقلية انتزاع الإحساس بالحياة من الإنسان قبل جسده.

كان صيدنايا يتجاوز كونه سجنًا؛ كان مصنعًا للرعب، ومرجعًا لسياسات النظام في كل سوريا. من تلك الزنازين تسرّبت الطريقة التي أراد بها الأسد حكم البلاد: الخشونة المطلقة، العقاب العاري، إذلال الإنسان حتى يفقد صوته وملامحه، وتحويل الخوف إلى هوية وطنية مفروضة بالقوة.

لذا، حين كُسرت أبوابه، لم يكن ذلك مجرد تحرر لمعتقلين، بل كان إعلانًا عن انهيار الأسطورة الأمنية التي بناها النظام طيلة نصف قرن.

ولم يحمل السوريون البنادق بحثًا عن الأسد الفار ولا عن ضباطه عند لحظة الانهيار. حملوا معاول بسيطة، وبدأوا يحفرون الأرض، لا طلبًا للانتقام، بل بحثًا عن أبنائهم. تلك الصورة التي ستبقى الأكثر فتكًا بوجدان السوريين: شعبٌ يتحوّل إلى حفّار قبور، لا ليودّع موتاه بل ليعثر عليهم أولًا. لا يطالب بحقه السياسي، بل بحقه البدائي بمعرفة مصير أحبته. أي مستوى من الإجرام هذا الذي يجعل أمةً كاملة تحفر التراب بأيديها لتسترجع أسماءً وذكريات؟

لا يوجد في تاريخ سوريا الحديث نظام بلغ هذا القدر من القبح. لم يكن مجرد سلطة مستبدة، بل آلة منهجية لإنتاج الخوف، قائمة على تصفية المعارضين، سحق الكرامة، تجويع المدن، وترويع القرى. أشرف على تحويل البلاد كلها إلى صيدنايا كبير، تُدار فيه الحياة بالولاء الأعمى والصمت الإجباري. في ظلّه، لم تنكسر السياسة فقط، بل انكسرت الروح السورية ذاتها.

ومع كل هذا، لا يزال بعض الجاحدين يقارنون بين “الوضع الحالي” و”عهد الأسد”، وكأننا نتحدث عن تحولات اقتصادية لا عن عقود من الدم والاختفاء القسري والتهجير. هؤلاء لا يدركون أنهم حين يحنّون لتلك الحقبة، إنما يحنّون لظلّ السجّان وهم لا يشعرون. ويعيدون إنتاج سردية يريدها النظام بالضبط: أن السوري لا يستحق الحياة إلا داخل القفص.

اليوم، لا تكتمل أي محاولة لبناء سوريا جديدة دون التحرر الكامل من “مملكة الرعب” تلك، ليس فقط كمنظومة سياسية، بل كعقلية وثقافة ومجموعة أشخاص ما زالوا يمثلونها.

فمن بقي يبرر جرائم ذلك النظام، أو يعيد إنتاج منطقه، أو يحاول إعادة تدوير وجوهه القديمة في المشهد الجديد، إنما يزرع بذور الخراب مجددًا. التخلص من هذه الشبكة، سياسيًا وأخلاقيًا وإداريًا، ليس خيارًا بل شرطًا أوليًا لأي مستقبل مختلف.

والله، لو لم يكن للسلطة الحالية من إنجاز إلا تفكيك الأجهزة الأمنية التي خرّبت كل شيء، وفتح السجون، وإلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية التي حوّلت شباب سوريا إلى جنود بالقوة… لكفاها ذلك لتكتب فصلًا جديدًا من تاريخ الوطن. لأن أهم انقلاب حدث في سوريا لم يكن انقلابًا سياسيًا، بل انقلابًا على الخوف ذاته.

السوريون لا يريدون معجزات، ولا يبحثون عن رخاء خيالي. يريدون بلدًا لا تُدار فيه الحياة بالعصا، ولا تتحكم به أجهزة ترى في المواطن مشروعًا مشتبهًا به، ولا تكون فيه الدولة امتدادًا لمزرعة عائلية. يريدون سوريا يمكن أن تُعاش، لا سوريا تُنجى منها.

إن تأسيس مستقبل يليق بالسوريين يبدأ من نقطة واحدة واضحة: إنهاء إرث الأسد بكل وجوهه، ومحاسبة من شارك في صناعتها، وإبعاد كل من ما زال يمثل تلك الحقبة؛ حتى لا تتكرر مملكة الرعب مرة أخرى… لا في السجون، ولا في المؤسسات، ولا في الذاكرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى