سحر خليفة: الرواية ديوان العرب والمحرك لاختبار الأفكار والمعتقدات
اتهمت بالشوفينية النسوية، أو كارهة الرجال في خطابها الروائي والثقافي، حيث ركزت الروائية الفلسطينية سحر خليفة على نضال المرأة ضد القيم والمفاهيم والقيود الاجتماعية، بعيدا عن الشعارات المستهلكة عن الوطن المرأة، والوطن الأم، والوطن الحبيبة، بسبب تحليها بمنظور حداثي وثوري حقيقي صنفها كمناضلة اجتماعية سياسية نسوية.
سحر خليفة باحثة اجتماعية ومرشدة نسائية وعائلية، بدأت كتابتها للرواية بعد سلسلة من الانتكاسات وتجربة اجتماعية فاشلة، دفعتها نحو الكتابة عن المجتمع وافراده الثائرين على واقعهم، وكتبت عن النظام العائلي العربي بتركيبته الذكورية الديكتاتورية الموغلة في القمع والرجعية، وركزت على نضال المرأة في ذلك المجتمع المغلق الذي اعتبرته أصعب من نضالها ضد الاحتلال.
«القدس العربي» التقت خليفة وحاورتها حول منجزها الأدبي والجدل الدائر حول الرواية التي أصبح العديد يعتبرها ديوان العرب.
■ لننطلق من البدايات؛ ما الذي شكل نواة الكتابة لدى خليفة؟
□ بدأت حياتي الفنية هاوية، ثم تطورت، تعلمت أن أكون ملتزمة. ربما بحكم ظروفي الشخصية، وربما لأنني عشت مرحلة انتكاسات واحتلال وانتفاضات وثورة ونضال وعنف ودمار. ربما بسبب كل هذا وذاك اخترت لنفسي هذا النوع من الفن: الرواية السياسية ذات الأبعاد الوجودية، حيث الأفراد يتصارعون مع الذات ومع الخارج. والخارج مجتمع ما زال في طور التكوين ومستعمَر، ومفاهيم ما زالت محكومة بالتقليد ورفض التجديد وتقييد الفرد. والذات التي تجد نفسها محاصرة بدوائر متتابعة لا حصر لها. فهناك الإخفاق الذاتي، فالاجتماعي فالسياسي المحلي فالعالمي. وهذا ما أحاول فعله في رواياتي: تصوير أفراد مأزومين يعيشون واقعا لا يرضيهم. يثورون عليه، أو يسحقون تحت ثقله، أو يقدمون التضحيات لتغييره، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي، المستوى الفردي أو الجماعي. فقضيتنا كمجتمع مهزوم مأزوم متخلف لا يمكن حصرها بالاحتلال والاستعمار. ومسألة التغيير أعقد وأصعب من مسألة الاستقلال الوطني والتحرير. وهذا ما أحاول رصده في رواياتي، أو بالأحرى، هذه هي الأسئلة التي أطرحها والأجواء التي أرصدها والإجابات التي أبحث عنها من خلال شخوصي، ومن خلال الجو، ومن خلال واقع أحياه وأعرفه وأتصارع معه وأتمنى لو أغيره، أو أساهم في تغييره.
■ بعد تراكم تجربتكِ؛ كيف تنظرين إلى منجزكَ منذُ الإصدار الروائي الأول، وحتى اليوم؟ هل ثمةَ مراجعة تعقدينها في تقييم نصك الأدبي؟
□ أنا سعيدة بما أنجزت، وأكون أسعد إذا تفوقت على نفسي وأنجزت الأغنى والأفضل. طبعا أراجع نصوصي، أي رواياتي، وأشارك آخرين بمراجعتها، كل واحدة على حدة، أي أنني حين أنتهي من أي رواية، وقبل نشرها، أعرضها على ما لا يقل عن عشرة أشخاص ممن أثق بآرائهم حتى أستفيد من تعليقاتهم. بالنسبة لي، نصوص الكاتب ليست منزلة من السماء، بل هي اجتهادات وتجارب تتفاوت في أهميتها الفنية والمعرفية، وأنا لدي من التواضع والخبرة ما يجعلني أعترف بأن رواياتي، ككل الروايات في العالم، لا بد أن تكون فيها بعض الشوائب الفنية أو المعرفية.
وبما أن رواياتي سياسية اجتماعية ومحملة برسائل مجتمعية، فأنا أحس بأن من واجبي أن أعمل على تنقيتها من الشوائب ما أمكن، احتراما للقارئ، واحتراما لما أكتبه عن مجتمعي. وغالبا ما صححت معلومة أو اختصرت فقرة أو جملة أو حتى مشهدا بأكمله بناء على نصيحة أقتنع بها. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الكاتبة أو الكاتب، مهما اجتهدا في تقديم الأفضل، فهناك ما هو أفضل، سواء لدى الواحد منهما أو لدى الآخرين. طبعا تعليقات القراء والنقاد تساعد الكاتب على مراجعة أعماله ومعرفة أين نجح وأين أخفق، لكنني أحذر الكتاب الشباب من أخذ كل التعليقات والانتقادات بجدية مطلقة لأن النقد يخضع لعملية التذوق، والتذوق يختلف من قارئ إلى آخر ومن ناقد إلى آخر، وعلى الكاتب أن يربي لديه القدرة على غربلة الانتقادات والتعليقات ولا يحتفظ منها إلا بما هو صادق ونافع وإلا ضاع بين المتناقضات وضيع بوصلته.
■ من الانتقادات التي سُجلت على رواياتك، عدم تقيدها ببعض الوقائع، ففي رواية «حبي الأول» إشارة إلى مستوطنات أقيمت، قبل عام 1948، قرب نابلس، قرب قرية زواتا وقرية صانور (ص84، ص172) وفي الرواية أيضا إشارة إلى قرى لا تقع قرب نابلس (روبين، ص80)، وهو ما شكك بصحتهِ بعض القراء، فكيف تعلقين؟ وما هو المنهج الذي تتبعينهُ في التحقق من بعض المعلومات التاريخية والجغرافية؟
□ قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد أن نعمل على تعريف ماهية الرواية. باختصار شديد، الرواية هي عمل فني إبداعي خلاق، أو بالأحرى مختلق سواء بشخوصه أو أحداثه أو مبناه ونهاياته. وأثناء القراءة نتعرف ونتأمل ونتعلم بعض الأمور عن حياة الناس والمجتمع وتناقضات وصراعات الأفراد والجماعات. وفي العادة، نحكم كقراء، وأيضا كنقاد، على العمل، أو الرواية، من خلال خلفيتنا الثقافية وحساسيتنا النفسية. ونحكم على العمل ككل، ولا نأخذ من المآخذ الصغيرة التي لا يخلو منها أي عمل فني مهما ارتقى وعلت قيمته مبررا للتقليل من أهميته. وسؤالك هنا حول المستوطنات ما إذا كانت أقيمت بالتاريخ الحقيقي، حسب الواقع، أو المجازي كما هو في الرواية. وأنا أقول إن مشكلة المستوطنات التي أعالجها في الرواية هي بالأصل مجازية – واقعية لاعتبارات فنية. فمستوطنة تسانور (صانور) كما يسميها العدو لم تقم قبل سنة 48، بل بعد ذاك التاريخ. وكذلك مستوطنة زواتا. والسؤال هنا هو: هل أنا ملزمة ككاتبة مبدعة أن أتقيد بالتاريخ الحرفي لعمليات الاستيطان؟ وهل على الرواية أن تتقيد بالواقع الحرفي للتاريخ؟ وهل تفقد الرواية صدقيتها إذا لم تتقيد بالواقع الحرفي للتاريخ؟ أنا أقول إن على من يرغبون في تتبع مجريات التاريخ بحرفيته فليراجعوا كتب التاريخ. وهذا ما أفعله أنا أثناء التحضير للكتابة، أما ما أقوم به أثناء الكتابة فهو الاستفادة من التاريخ كمرتكز ومرجع لنقل المضامين، والتأمل فيها، والتفاعل معها، والتعلم منها لا أكثر ولا أقل. أما قرية روبين التي وردت كخطأ مطبعي، فهي بورين، أي القرية الواقعة على الجبل الجنوبي من نابلس. وشكرا على التنبيه.
■ تعيش سحر خليفة عزلة جغرافية إن صح القول، بحصرِ جغرافية المكان الفلسطيني في رواياتها في نابلس، فكيف تردين على هذا القول؟
□ حتى لو كان الأمر كذلك، فمن الناحية الفنية، وحتى الوطنية، هذا أمر متداول وواسع الانتشار بين الكتاب. وأول هؤلاء وأبرزهم كبيرنا نجيب محفوظ الذي كتب غالبية رواياته عن القاهرة. وبسبب تجربة نجيب محفوظ بدأنا نسمع ونقرأ عن مقولة «المحلية دخول للعالمية.» ولكن، حتى أكون دقيقة بهذا الخصوص، فقد كنت في رواياتي دائمة التنقل بين نابلس والقدس ابتداء من «عباد الشمس» وحتى «أرضٌ وسماء»، أي منذ سنة 1980 حتى 1913. وفي «الميراث» كرست الرواية لرصد ما يدور في بلدة مختلقة تمثل المدينة – القرية الفلسطينية بشكل عام سميتها وادي الريحان، وقارنت بينها وبين مدينة نيويورك. وفي «ربيع حار» تنقلت بين نابلس ورام الله. وفي «أصل وفصل» تنقلت بين حيفا ونابلس. وفي «أرض وسماء» تنقلت بين بيروت ونابلس. أما «صورة وأيقونة وعهد قديم» فكانت مكرسة، بكاملها، للقدس. فهل يعتبر هذا عزلة جغرافية؟
■ في تناولك للمرأة الفلسطينية القوية والضعيفة، نضالها ضد الاحتلال وضد نظرة المجتمع تجاه المرأة، أيهما كان الاصعب؟ ولماذا؟
□ نضال المرأة ضد القيم والمفاهيم والقيود الاجتماعية التي تعاملها كإنسان من الدرجة الثانية أصعب بكثير من نضالها ضد المحتل. لماذا؟ لأن المرأة التي تناضل نسويا تتهم في الغالب بأنها خارجة على المألوف والسياق العام، وقد تتهم بكرهها للرجال وحقدها عليهم، وأيضا قد تتهم بالتمرجل وتقليد نساء الغرب. وقد تتهم بالنشوز وكسر الناموس. أما النضال ضد المحتل فيمنحها مباركة المجتمع كله الذي يلقبها بالبطلة والمناضلة وأخت الرجال وما شابه. كما أن النضال ضد المحتل له زمن محدود بعشرات السنين، أما النضال الاجتماعي لتغيير وضع المرأة فقد يستمر لمئات السنين.
■ ألا يحملُ خطابك الروائي والثقافي تعسفا تجاه الرجل في وقت تناضلين فيه من أجل المرأة؟
□ خطابي الروائي والثقافي لا ولم ولن يحمل تعسفا ضد الرجل. هذه التهمة ألصقت بي لأنني كنت الروائية العربية الأولى التي ناقشت وتناقش من خلال الرواية وضع المرأة العربية وما فيه من انتقاص لكرامتها الإنسانية والاجتماعية والسياسية وعلى كل صعيد. كان ذلك في الثمانينيات، ثم مع الوقت، ومع تطور المفاهيم لدى الأجيال الجديدة، ما عدت أهاجم بسبب خطابي النسوي لأن الكثيرات، وحتى الكثيرين، باتوا يتبنون مواقف وخطابا نسويا ربما يكون أكثر تعنتا أو تطرفا من خطابي. في الثمانينيات، حين بدأت بهذا الطرح، لم يبق كاتب أو صحافي أو ناقد، يميني أو يساري، إلا ووصمني بتهمة الشوفينية النسوية، أو كارهة الرجال، أو مفسدة النساء، أو ناشرة النشوز والإلحاد. أما الآن، أنظري حولك تجدين معظم المثقفين والسياسيين والنهضويين ينادون بتغيير وضع المرأة من أجل النهوض بالمجتمع ككل، وعملا بمبادئ حقوق الإنسان التي بتنا نواكبها ونقتدي بها، وأيضا لتزايد أعداد النساء المتعلمات والمبدعات والناشطات في شتى الميادين التي كانت في السابق مقصورة على الرجال. صحيح أن من يكتبون عني ما زالوا يضعونني بين ثنائيتين: الوطن والمرأة، إلا أن ذلك ما عاد تهمة لأن الكثيرين والكثيرات يشاركونني هذه الثنائية، وهم في موقعي نفسه بالضبط، وما عدت النسوية الوحيدة أو الشاذة، صاروا بالألوف، وربما الملايين. وأنا سعيدة بهذا التطور.
■ لماذا لا يزال الجدل دائرا حول فن الرواية وعناصر الرواية الناجحة؟
□ لأن الرواية باتت ديوان العرب، كما بات معظمنا يقول. في رأي معظم النقاد، وأيضا الكتاب، أخذت الرواية موقع الشعر واستحوذت على أهميته. لماذا؟ في اعتقادي لسببين رئيسيين. الأول: أن ظروفنا العربية متناهية التعقيد لا يمكن أن تطرح من خلال الشعر الوجداني الغنائي المجرد. ظروفنا السياسية الاجتماعية ومشاكلنا سواء المحلية أو على الصعيد العالمي في حاجة لما هو أوسع وأدق وأشمل من الوجدانيات. الشعر إذا تخلى عن غنائيته ووجدانيته وتجريده يهبط فنيا ويصبح بلا قيمة. أما الرواية ففي استطاعتها طرح مشكلاتنا العامة، بتعقيداتها وتنوعها، مستخدمة أدوات التحليل والتعليل التي تستخدم في العادة في ميادين العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس والعلوم السياسية والأنثروبولوجيا.
وهذا ما يقودني إلى السبب الثاني حول أهمية الرواية وتصدرها للمشهد الثقافي والأدبي، وهو أن الرواية، بالإضافة لقدرتها على التحليل والتعليل واستخدام أدوات العلوم الإنسانية، فهي أيضا قادرة على استخدام واستغلال أساليب الأنواع الأدبية والفنية قاطبة. في استطاعتها استغلال اللغة الشعرية، والأسلوب المسرحي للغة الحوار، والقصة القصيرة لبناء المشاهد، واستغلال الرسم والنحت في الوصف، وحتى استغلال اللغة السينمائية من أجل الدينامية والحركة. الرواية، في عصرنا هذا، هي الأهم والأشمل من كل الأنواع الأدبية. هي انعكاس المجتمع بحركته وسكونه. هي محرك فعال لاختبار الأفكار والمعتقدات وهز المأزوم والجامد.
■ تميزت أعمالك الروائية بتناولها الجوانب الإنسانية الاجتماعية مقابل الجانب الوطني الذي ركز عليه الكتاب والشعراء الذكور، فهل منحت هذا الجانب حقه من خلال أعمالك، وما هو المقبل؟
– أعتقد أن غالبية القراء والنقاد لا يعرفون أنني باحثة اجتماعية ومرشدة نسائية وعائلية، بالإضافة لمهنتي كاتبة روائية. العمل الذي تعيشت منه لسنوات وسنوات وقبضت منه راتبا شهريا مستمرا وحققت من خلاله استقلالي الاقتصادي هو وظيفتي مديرة عامة ومدربة لطاقم البحوث في مؤسسة شؤون المرأة بفرعيها في نابلس وغزة، كما أنني ناشطة في حركة التحرر النسوية الفلسطينية والعربية.
ومن خلال عملي باحثة، وناشطة اجتماعية، اكتشفت مدى صدقية ما بشر به بعض مفكرينا العرب ابتداء من قاسم أمين وطه حسين ونوال السعداوي وغيرهم، الذين أكدوا أن نهضتنا السياسية القومية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تواكبت مع نهضتنا الاجتماعية. بمعنى أن العائلة، وهي النواة الأساسية للمجتمع، لا يمكن أن تفرز مواطنين أحرارا أصحاء والعلاقات داخلها ليست حرة ولا سليمة. أنظري للنظام العائلي العربي بتركيبته الذكورية الديكتاتورية الموغلة في القمع والرجعية. أنظري للطبقية داخل العائلة وما تفرزه من مزايا للذكر على الأنثى: الأب على الأم، والأب على الابن، والأخ على الأخت، والأم على الأطفال – بالذات البنات.
التربية في العائلة هي التي توجه وتغذي وتشكل. نحن نتاج العائلة، ثم المدرسة، فالمجتمع الكبير الذي هو صورة مكبرة عما يجري في العائلة والمدرسة. فإذا كانت العائلة متخلفة ومستعبدة بهذا الشكل، وكذلك المدرسة، فكيف نتوقع من المواطن، الذي قولبته وشكلته العائلة والمدرسة، أن يكون حرا وسليما في فكره وتصرفاته؟ الأصل هو العائلة، ومشاكلنا السياسية والاجتماعية لن تحل ما لم تؤخذ البنية العائلية بعين الاعتبار، وكذلك المناهج التربوية في المدرسة. الكتّاب والشعراء الذكور، أغلبهم، لا يتبنون هذا المنظور، وهو منظور نسوي حداثي وثوري، بل يواظبون على الطروحات القديمة ذات الشعارات المستهلكة عن الوطن المرأة، والوطن الأم، والوطن الحبيبة، والكفاح المسلح فقط لا غير، والحرية المجردة من أي بعد تربوي أو اجتماعي يذكر. لماذا يفعلون ذلك؟ برأيي لسببين. الأول أنهم ورثوا هذه المقولات والشعارات ولم يخوضوا تجربة العمل الاجتماعي الميداني. والثاني أن الذكور هم المستفيدون من هذا الوضع الذي يضعهم على قمة الهرم العائلي – الاجتماعي – السياسي. وما لم يكن الكاتب أو الشاعر يتحلى بمنظور حداثي وثوري حقيقي، فسيظل يردد الشعارات والأمنيات نفسها. هذا هو الفرق بيني وبينهم. هم ذكور، وأنا مناضلة اجتماعية سياسية نسوية.
آية الخوالدة – القدس العربي