عن الأوباش في حلب .. نجم الدين سمان
ملاحظات حول رثاء جمال باروت لمدينته.
أعرف جمالاً منذ أول مهرجانٍ للأدباء الشباب أُقيمَ عام 1977 من قرنٍ مضى؛ وما انقضى؛ ثمّ التقينا في جامعة حلب 1979؛ وعملنا معاً في اتحاد الطلبة 1981 حين أعدنا إصدار جريدة: صدى الجامعة؛ وأسّسنا معاً الملتقى الأدبي لجامعة حلب؛ حيثُ استمرَّ حتى 1985 حين لم تعد تحتمل أصواتَنَا أجهزةُ الأمن وقد تغوَّلت بعد مجزرة حماة؛ وفي حلب أيضاً.. بعد مجزرة حيِّ المشارقة.
منذ مطلع الثمانينات تحديداً؛ بدأ سقوط حلب على يد الأسد الأب؛ ولم ينته حتى 2016 على يد الأسد الابن؛ ولن تنتهي المعركة التاريخية المفتوحة ما بين حلب وبين السلطة المركزية في دمشق؛ كما لن ينتهي التنافسُ بين الحاضرتين السوريتين الكبيرتين ممّا قبلَ مملكة آرام دمشق؛ مُتخِذاً في كلِّ مرَّةٍ أشكالاً واصطفافاتٍ تبدو مُختلفةً؛ لكن جوهرَهَا واحد؛ فلطالما وُجِدَ هذا التنافس بين كلِّ عاصمةٍ وبينَ المدينة الثانية في كلِّ بلد.
لكن الذي بين حلب وبين دمشق.. له نكهة مُختلفة!.
يعرف جمال باروت.. تلك النكهة تماماً؛ وتجليّاتها طوال تاريخ مدينته؛ بل طيلة عمر سوريا المديد تاريخياً؛ من حيث تتجاذبه القوى الإقليمية والدولية كلما تصارعت فوق أرضها نفوذاً أو سيطرةً مباشرة؛ فلا حَسمَ لغازٍ في دمشق؛ أو.. لدمشقَ كمركزٍ للسلطة المركزية؛ إلا بعدَ حَسمِ أمورِ بلاد الشام في حلب!.
وحتى لا نغرق في التفاصيل التاريخية؛ سنبدأ من سقوط حلب في قبضة الأسد الأب في الثمانينات؛ وليس من تدميره الدامي لحماة؛ لأنّ سقوط حلب آنذاك؛ هو الذي جعلَ استبدادَهُ يستمرُّ حتى يومنا هذا؛ وسقوطها اليوم في يد وريثه قد يُعوّمهُ لفترةٍ فوق دماء السوريين؛ لكنه سيُطِيحُهُ عاجلاً أو آجلاً؛ عسكرياً بنسبة أقلّ.. بسبب اختلال موازين القوى مع التدخل الإيراني والروسي؛ أو.. بحلٍّ سياسي يُفضي إلى سلطةٍ انتقالية وهو الأرجح.
أصاب جمال باروت حين قال بأنّ حلبُ عاصمةُ الأفكار والفنون والثقافات والتيارات الدينية أيضاً؛ وبخاصةٍ الصوفيّة منها؛ لكنَّه حين رصد تحوّلاتها منذ ما قبل الثمانينات إلى التطرُّف؛ لم يتطرَّق إلى الطرف الثاني من المُعادلة: قمعُ السلطة الذي يتراكم حتى عند الصوفيّ المُسالِم.. لينفجر فيما بَعدُ عُنفاً مُضاداً لعُنفِ السلطة؛ ولطالما كان عُنفُ السلطة مصدرَ كلِّ عُنفٍ في كلّ مُجتمعٍ؛ فكيف إذا امتدّ أربعين عاماً من زواج الاستبداد بالفساد؟!.
يعرِفُ محمد جمال باروت مذ كنّا في الجامعة؛ بأنّ تعاطُفَ الحلبيين الصامت مع الإخوان المسلمين؛ لم يكن عشقاً للتطرُّف.. فلطالما كان الحلبيّونَ عُشّاقَ حياةٍ وطربٍ وكرةَ قدمٍ وموائدَ مفتوحة؛ وإنما أملاً بالخلاص من استبداد الأسد؛ وبالضبط.. تململاً من تهميش حلبَ اقتصادياً؛ بعد تحالف برجوازية وتجّار دمشق المُعلَن مع الطاغية الأب؛ بَل ومِن تحالُفِ كهنوتِ دمشقَ المُسلمِ والمسيحيّ معه أيضاً.
كانت حلب في أغلبها.. ناصريّةً؛ عروبيةً؛ حتى اكتسحها الريفُ الذي صار بعثياُ ؛ يعرف جمال باروت بأنّ حلبياً واحداً فقط ؛ كان قياديّاً في فرع حزب البعث بجامعة حلب مطلع الثمانينات؛ بينما أعضاء قيادة الفرع الآخرون من ريفها ومن ريف إدلب واللاذقية وطرطوس أيضاً؛ وقد اغتيلَ ذاكَ الرفيق البعثيُّ الحلبيُّ؛ فقالَ النظام بأنّ الطليعة المُسلّحة للإخوان المسلمين قد قتلته؛ لكن النظام كان يتدرّبُ آنذاك على فنّ الاغتيالات؛ حتى صار أستاذاً فيه؛ وكنّا نشكُّ منذ الثمانينات بأنّه وراءَ كثيرٍ منها؛ وصولاُ إلى اغتيال خصومه السياسيين: رفيق الحريري؛ كما إلى أفراد حاشيته: الزعبي – رستم غزالي؛ ثم في تفجير مكتب الأمن القومي.. ببصماتٍ أسديّة / إيرانية واضحة.
أذكر تماماً بأنّ مُلازماً من الفرقة الرابعة التي كان يُحكِمُ شفيق فياض بها قبضةَ النظام على حلب؛ قد قال لك بأنّهم وجدوا اسمَك على قائمة اغتيال في أحد أوكار الإخوان المسلمين؛ ومثلُ ذاك التسريب كان لترويض راديكاليتكَ الحرَّة حتى بين رفاقك البعثيين.
لكنك تختصر في مقالتك معادلة الريف / المدينة تلك؛ حين تُشَخِّصُ حالَ حلب مع الثورة الحالية؛ بأنه اكتساحُ الريفِ للمدينة؛ مُتجاوِزاً الأربعين عاماً من الترويض الأسديّ لحلب؛ بل.. مِن مُعاقبتها؛ بدءاً من تأخير تحويل مطارها المُتواضِعِ – أيام الفرنسيين – إلى مطارٍ دولي؛ وليس انتهاءً بإطلاق يد المافيا الدمشقية المُتحالِفَةِ مع الحراميَّة الأسديين الأوباش؛ وقد صاروا برجوازية الصمود والتصدي ثمّ المُمانِعَة؛ منذ رفعت الأسد وليسَ انتهاءً برامي مخلوف.
كان على حلب أن تتكيَّف مع طاغية دمشق الجديد؛ بل.. أن تصير براغماتيةً أيضاً لتتقي سَطوَةَ الاستبداد الأسدي؛ كما قد تكيَّفت مع سيف الدولة.. فقيلَ بأنها تشيّعَت في عهدِه!؛ وتلكَ أيضاً من الأكاذيب الأسديّة؛ فما أنّ انتهى الحمدانيون ودالت دولة بني عقيل؛ حتى عادت حلب الى سيرتها كحاضرةٍ كُبرى للسُنّة السوريين.
نعرفُ أنتَ وأنا.. أيضاً؛ كيف ازدادت الإشادةُ ببطولات سيف الدولة الخُلّبِيَّة مع مَجِيء حافظ الأسد؛ كنوعٍ من التَمَاهِي التاريخانيّ والمذهبيّ بينهما؛ تحت رايات التصدّي والصمود أمام بيزنطة سابقاً أَم إسرائيل لاحقاً.. سواءً بسواء!؛ بينما الحقيقة.. أنّ حافظ الأسد قد انهزمَ أمام إسرائيل كوزير دفاعٍ في حزيران 1967؛ بل إنّه من أصدر أمرَهُ المُرِيبَ للجيش السوريّ قبل أن يصير أسدياً؛ بالانسحاب الكيفيّ من الجولان؛ ثم انهزم في حرب تشرين 1973 برغم تمثيلية رفع العلم على ما تبقّى من مدينة القنيطرة؛ أمّا نُسخته التاريخانيّة سيفُ الدولة فانهزَم أيضاُ؛ ومِرَاراً.. أمام نفقورَ البزنطيّ؛ بل إنّه هربَ من حلب المُحاصَرة ثلاثَ مرّاتٍ عائداً إلى مسقط رأسه في “ميافارقين” شمال الموصل؛ تاركاً حلب للمنجنيقات ثمّ لاستباحة أهلها.
و كما أن حافظ الأسد قد أرهَقَ حلب باستبداده وبفساد حاشيته؛ كان قاضي قُضاةِ سيفِ الدولة قد أفتى غيرَ مَسبوقٍ في فَتوَاه:
” كلُّ مَن ماتَ في حلب؛ فلسيفِ الدولةِ ما ترَك”.
هؤلاء هُمُ ” الأوباش” الذين قَصَدّتهم يا صديقي جمال في مرثيتِك عن حلب؛ وقد عادوا إليها مع أحفاد سيف الدولة ليُدمِّروا الموصل أيضاً في طريقهم إلى شهبائنا؛ بل.. هُمُ الأوباش الذين خرَّبوا أرواحَ حلبَ قبل حجارتها الشهباء؛ والذين وَسَّعوا شريحةَ الفاسدين فيها؛ حين أشركوهم في لعبة فسادهم؛ منذ شركات توظيف الأموال برعايةٍ وشراكةٍ مُخابراتية أسدية؛ فقد خسر الحلبيّون وقتها ما تقديرُهُ الوسطيّ 36 مليارَ ليرةٍ سورية؛ في الوقت الذي كانت فيه الميزانية العامة الأسديّة لا تتجاوز 112 ملياراً.
إذا كان ثمَّة أوباشٌ في حلب.. فهم أوباش المُفتي الأسديّ أحمد حسون.. طليقي اللِحيِة واليد؛ وحليقي الذقون من عصابة آل برّي؛ وطابورٍ من الشبّيحة والمُنتفعين.
وإذا كان ثمَّة أوباشٌ أيضاً في شرق حلب التي تنحدرُ أنتَ منها؛ كما تنحدر عائلة أبي من “باب الحديد” داخل السور؛ فُهُم أمراءُ الحرب الأوباش الذين أطلقَهُم أوباش المخابرات الأسديّون من سجون الطاغية.
أن تُخيِّر الحلبيين.. بين أحمد حسّون أو بين العرعور أوالمحيسني؛ أو بين سهيل النمر وبين الجولاني.. فهذا يعني أن النظام قد رَبِحَ أولَ جولةٍ؛ حين خرَّبَ أرواح حلب؛ قبل خرابها بالقصف والتهجير المُمنهَج.
ليست مُفرَدةُ “الأوباش” ومُرادِفُهَا الشعبيّ الحلبيّ ” الحُشكُل”؛ بقادرةٍ وحدَها على تفسير ما آلَت إليه حلب من خرابٍ وأرضٍ يباب؛ فلكلّ عائلةٍ.. أوباشُها أيضاً؛ وفي كلِّ مذهبٍ أو طائفة؛ لكنك في سياقِ نَدبِكَ لحلب.. نسيتَ أفاضِلَها؛ والثائرينَ فيها على الاستبداد جيلاً بعدَ جيل؛ والذين خرجوا في شرقِ حلب بأولِ مُظاهراتهم السلميّة.. فاعتبرتَهُم بتعاليكَ المَدِينِيِّ: أوباشاً ريفيين!؛ ثمّ رَدَّ عليهم أوباشُ النظامِ الريفيّون أيضاً.. بالرصاص الحيّ؛ ونسيتَ جِدَارِيَّات حلبَ العصيَّة على التطرّف؛ حتى الأخيرة منها في وَدَاعِهَا: راجعين يا هوى.. راجعين!؛ بينما يبتهجُ بضعةُ أوباشٍ في حلب الغربية بمَقتَلَةِ أبناءِ مدينتهم في شرقها؛ لهذا كتبتُ لك التعليقَ التالي على مقالتك في موقع جيرون:
“كم زُرناها معاً يا جمال.. مدرسةَ الكواكبيِّ العتيقة في شرق حلب العتيقة: خاليةً من طُلابِهِ ومُرِيدِيه؛ بينما مدرستُهُ الجديدةُ في غَربها؛ وتماماً في الحَيِّ الذي أسماهُ أوباش الطاغية: حيَّ سيفِ الدولة؛ تغُصُّ بصورة الأب القائد وبالمُخبرين الصِغَار؛ وقد كبروا الآن فصاروا شبيحةً وقتلةً ومجرمي حرب؛ لقد خرَّبَ الأبُ القائدُ من آل الوحشِ حلبَ قبل خرابِهَا على أيدي ابنه؛ وهو المسؤولُ الأولُ عن خرابِهَا حتى لو تَعَدَّدَ المُخَرِّبون؛ أو كان بعضُهُم من أبنائها؛ كمحمد زهير مشارقة الذي صعد إلى مركز نائب الرئيس.. على دماءِ أبناءِ حارته: المشارقة؛ بعد أن أشرفَ بنفسه على المجزرة؛ لهذا هَجَرتُ حلبَ.. بعدَ خَرابِهَا الأول والثاني؛ وربما لن نعودَ إليها أنتَ وأنا.. بعد خَرَابِهَا الثالث الأليم”.
ثمّ إنّ الطاغيةَ الابنَ؛ لم يقرأ ما قالَهُ شيخُهُا المُنوِّرُ عبد الرحمن الكواكبي:
“الطُغَاة.. يجلبونَ الغُزَاة”.. أيضاً!.
*- مجلة رؤية سورية – العدد 38: كانون 2 – 2016