سميرة التي وراء سبعة جدران .. ياسين الحاج صالح
بين 1987 و1991، وقت كانت سميرة معتقلة سياسية يسارية في سجون حافظ الأسد، كانت تفصلها عن أحبابها مسافة وبابان. مسافة من حمص حيث يقيم أبواها وأخوتها، إلى دوما التي قضت سنوات اعتقالها في سجنها، وبابان: باب الجهاز الأمني الذي اعتقلها (من أجل طلب الزيارة) وباب السجن المغلق دونها.
اليوم، ومنذ ليل 9/12/2013 المشؤوم، تفصلني عن سميرة سبعة من الجدران، من الأبواب والمسافات والحدود، مثلما في الحكايات الشعبية التي تتكلم على سبعة بحور تفصل الحبيبين.
أول الجدران جدار السجن الجديد الذي يعزل سميرة عن الناس حولها وعن العالم، قد يفصلها أيضاً عن رفيقتها رزان زيتونة، ويفصلها ويفصل شركاءها رزان ووائل حمادة وناظم حمادي عن مجتمع دوما والغوطة الشرقية الذي لم تكمل أقدمهم فيه، رزان، سبعة أشهر ونصف الشهر قبل الخطف والتغييب. الأرجح أنه لا يطلع على ما وراء هذا الجدار الثاني غير قلة محدودة من تشكيل «جيش الإسلام» نفسه، المشتبه الأوحد اليوم باختطاف الأربعة، الذي توفر معرفتنا لأسماء نافذة فيه نافذة إلى الحقيقة.
الجدار الثاني هو جدار الإنكار من قبل الجناة المرجحين، رغم ما يتوفر من قرائن قوية بقدر كاف على ارتكابهم الجريمة. يحرمنا هذا الجدار من أن يكون هناك باب نطرقه ونسائل من وراءه عن المخطوفتين والمخطوفين، ويحد من قدرتنا على الضغط أو التوسط، خلافاً لما كان حال أهالينا وقت اعتقالنا من قبل النظام في جيل سابق.
الجدار الثالث هو الحصار. سميرة اختطفت من منطقة محاصرة على يد محاصرين مثلها. في كتابها، «يوميات الحصار في دوما 2013» (صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر قبل ثلاثة شهور ونيف)، تقارن بين الحصار والسجن الذي سبق أن خبرته في دوما نفسها قبل 22 عاماً من اختطافها، وتقول إن السجن «مزحة» إن قورن بالحصار، بسبب اقتران هذا بالجوع والمرض والعزلة، وشموله الصغار والكبار والنساء والأطفال والمدنيين والمحاربين، ثم بسبب تعرض المحاصرين لقصف عشوائي وعيشهم في حضن الموت. سميرة محاصرة وراء جدار من المجهول من قبل من هم أنفسهم محاصرين. وهذا ما يضفي على غيابها مزيجاً من التراجيديا والكوميديا، هو ما يميز التشكيلات السلفية التي صعدت في سوريا منذ عام 2013. مزيج مصنوع من الغفلة والجهل والغباء، ومن قسوة القلوب والتوحش.
الجدار الرابع هو الدولة الأسدية التي تحاصر دوما والغوطة الشرقية، والبلد، وكانت سميرة مطلوبة لها قبل أن تأتي تهريبا إلى الغوطة الشرقية في 18 ايار/مايو 2013. الدولة الأسدية هنا لا تحضر كحصار فقط، بل كخطر مباشر على سميرة ورزان ووائل وناظم. فخلافاً لأسرى من طرف الأسديين عند «جيش الإسلام»، سميرة، ومعها رزان ووائل وناظم، لا يخلصهم أن يتمكن الأسديون من إعادة احتلال ما بقي من الغوطة الشرقية خارج سيطرتهم، إن بصفقة وتهجير على نسق شرق حلب وداريا وحمص القديمة، أو حرباً، وهذا لأنهم مطلوبون أصلاً للأسديين. إنهم مناضلون جذريون ضد الدولة الأسدية قبل وقت طويل، من أن يقرر أمثال المرحوم زهران علوش و»شرعيّيه» سمير الكعكة و»ضابط أمن الغوطة الشرقية» حسين الشاذلي أنهم أيضاً أعداء لهم. وهذا يجعل جريمة الخطف والتغييب مضاعفة، بالنظر إلى أن لتلك الجريمة وشبيهات لها دورا في إضعاف مجتمع دوما والغوطة الشرقية، ومجتمع الثورة ككل، أمام العدوان الأسدي. وما يتوارد إلينا بين حين وآخر من أن الأربعة في سجن الأسديين، سلمهم إليهم «جيش الإسلام»، سواء من باب التخلص من الأربعة وبناء جدار إضافي في وجه الحقيقة وحرية الأربعة، أو في إطار صفقة عقدها جيش الإسلام مع جيش الأسد وجنى منها شيئاً، احتمال الهروب إلى الأمام هذا يتضمن ما يتهدد الأربعة من خطر من طرف دولة الأسديين. وهو إن صح، يضاعف جريمة العلوشيين أضعافاً مضاعفة.
الجدار الخامس هو الحدود التي تقطع سورية اليوم. في زمن «سورية الأسد» كان البلد مقسما إلى عالمين، عالم السجون المعلومة الأسماء، ثم عالم «السجن الكبير» الذي هو البلد ككل. بني «السلم الأسدي» طوال أربعين عاماً على احتكار الحرب والسياسة معاً لحماية نظام السجنين هذا. ومنذ تحول الحرب الأهلية السورية (2011-2012) إلى صراع شيعي سني في ربيع 2013 حصلنا على سلطات متنوعة، لا يعرف أيٌ كان أين يبدأ «إقليم» الواحدة منها وأين ينتهي، على ما صورت رواية خالد خليفة: «الموت عمل شاق»، ورغم تقدم دولة الأسديين، بإشراف أسيادها الروس والإيرانيين، في إعادة بناء «السجن الكبير»، إلا أن العملية بعيدة عن الاكتمال، ليس فقط لأن هناك مناطق تسيطر عليها قوات مسلحة، منها ما هو سلفي جهادي، وسميرة ورزان ووائل وناظم مستهدفون طبيعيون من مثل هؤلاء، ولكن كذلك لأن معسكر النظام بعيد عن التوحد، وهم اليوم مظلة لعصابات متنوعة، مستقلة بدرجات متفاوتة، ومنها سلطة حزب الله اللبناني، المؤتمر بأمر الولي الفقيه الإيراني.
الجدار السادس هو حدود الدول. سميرة وراء جدران وراء جدران وراء جدران… في «الوطن» المحطم، وأقيم أنا وراء الحدود في بلد آخر، تركيا. والحدود هذه مغلقة من الجهة التركية منذ نحو عام. ترى لو حصل أن وصلت سميرة إلى هذا الحدود، هل من المضمون أن تدخل إلى تركيا؟ أفترض أن هذا ليس ممتنعاً، لكن قلما يتيقن المرء تمام التيقّن من شيء حين يتعلق الأمر بالدول.
على أن جدار الجدران كلها هو انقطاع المعلومات طوال ما يقترب من 1120 يوماً. سميرة غائبة وراء جدار من المجهول، يسميه الحقوقيون «التغييب القسري». أنا لا أستطيع أن أسميه. تسميته تعطي وهماً بإحضاره، بكسر الغياب والإمساك به. ليس هذا واقع الحال. الغياب هو ما يمسك بنا كل يوم، ما يضعنا في حالة من الذهول المستمر لا نستطيع تسميتها. لا نستطيع أن نسمي لأنفسنا ولغيرنا الهواجس التي تتملكنا حيال هذا الصمت الطويل. هناك جدار غير مرئي، لكنه كثيف وصلب تختفي وراءه سميرة.
في غيابهم وغيابنا عنهم لا نعرف شيئا عن الغائبين ولا يعرفون عنا. بماذا تفكر سميرة والأيام تمر، وشريكها لم يستطع مساعدتها. هل يمكن أن يخطر ببالها أني نسيتها؟ أني لم أفعل شيئاً أو كل ما استطيع من أجلها؟ وكيف هي اليوم؟ هل هي بخير؟ هل يؤمل من سجانيها أن يوفروا لها ولشركائها الطعام الكافي، والدواء حين يلزم؟ هل تعرف الوقت؟ هل تفكر بي كثيراً؟
ما يقتل في الغياب هو أننا لا نكون على يقين من شيء. لا ندري ما وراء هذ الجدار الكتيم الصلب، لا رسل تأتي من عالم الغياب هذا ولا وحي، لا طيور ولا غيوم. يحرس الغياب وكلاء متجهمون لإله مكفهر، لا قلب له.
في غياب سميرة، أعيرها صوتي.
وأقل ما آمله، يا سمّور، أنه مزعج كفاية لحراس الغياب.
كاتب سوري – القدس العربي