جمهورية إدلب العُظمَى! .. نجم الدين السمان
لم أكن أعرفُ بأنَّ لوالدي معرفة شخصية مع حسيب كيّالي.
كنتُ التقيتُ حسيبًا أول مرّة، حين جاء إلى بلدته من دمشق؛ لإلقاء مُحاضَرةٍ له، هكذا كتبوا في إعلان المركز الثقافيّ: مُحاضرة؛ وليست أمسيةً قصصية!
كان الإعلانُ عن مُحاضرةٍ خِدَاعًا.. ربما، فلمَّا امتلأت صالةُ المركز الثقافيّ عن آخرِها؛ بشكلٍ غيرِ مَسبوقٍ، حضرها كثيرونَ وقوفًا، واتضحَ للجميع، مقطعًا بعدَ مقطع، أن حسيبًا الحكواتيّ الساخرُ البارع لا يُلقي مُحاضرةً، وإنما قصّةً ساخرةً جديدة له، كان عنوانها: “جمهورية إدلب العُظمَى” استغرقَ في قراءتها 40 دقيقة، واستغرقنا في الضحكات والتعليقات المُتبادَلة بيننا 40 دقيقةً مثلها.
لم أشهَد في حياتي مثلَ تلكَ الأمسية التفاعليّة؛ سوى في أمسيتين: لنزار قباني في دمشق؛ ولمحمود درويش في حلب.
بدأ حسيب قصَّته الساخرة المُتخيَّلَة عن تلك الجمهورية بأنه حين ذهب إلى باريس لدراسة الحقوق، التقى حسناء فرنسية تدرسُ التاريخ القديم لشرق المتوسط، فلمّا سألته عن بلده؛ قال لها:
– جمهورية إدلب العُظمَى.
بحثَت “المدموزيل” ليومينِ في المكتبات العامَّة عن تلك الجمهوريّة فلم تجِدها؛ أردفَ حسيب:
– مغفورُ للرجل أن يكذبَ على حسناء حتى تعودَ للقائِه، فتسأله:
– ولها عَلَمُ ونشيد؟!
رَسَمَ لها حسيب زيتونتَين، بينهما قرن فليفلةٍ حمراء؛ دَندَنَ لها بالنشيد الوطنيّ لجمهوريته؛ وهو يفكّر كيف سيتمكَّنُ من ترجمته إلى الفرنسية:
“علي عُلعُل / طَبَخ بُرغُل
إجَا ليصبُّوا / حَرَق.. بّو!.”
قال حسيب: كنتُ أكذِبُ لألتقيها مرّةً تلوَ مرَّة؛ مُستمتعًا بدهشة عينيها وبجمالها الباريسيّ الناعم، تكتبُ كلَّ ما أقوله، لتبحث عن جمهوريتنا في كتب التاريخ.
ثمّ أردَفَ وهو يتأمل أنوثتها: ولها حكومةٌ مُنتخبَة ديموقراطيًا!.
رمقته الباريسية بنظرة شكٍ، لأول مرَّة؛ فبادرها:
– قبل أن يُطِيحَها أولُ انقلابٍ عسكريّ!
فلمّا أخذ يُعدّد أسماءَ وزراء حكومتنا الإدلبيّة العتيدة؛ وقد عَيَّنَهم حسيبُ من أبنائِهَا؛ ضَجَّت القاعة بالضحك؛ فمع كلِّ شخصيةٍ في حكومته العُظمَى المُتخيَّلَة؛ كنّا نترجِمها إلى ما يماثلها في حكومة حافظ الأسد، بعد انقلابه على رفاقه؛ فنضحك حتى الثمالة؛ كما لن يستطيع كل المُخبِرِينَ في القاعة أن يضحكوا مثلَنا..
عَيّنَ حسيب أشهرَ لِصٍّ محترفٍ في إدلب: وزيرًا للعدل، و”التُوم” وزيرًا للداخلية؛ و”كشّاش الحَمَام” وزيرًا للخارجية، وشيخًا من شيوخِ “السَلتَه” فيها؛ لا تفوتُهُ “جَوازَةٌ ولا جَنازَةٌ”: وزيرًا للأوقاف؛ والإسكافيّ علي حسينو -مدير عام “مشفى الصَرَامِي” في سوق “الكُندَرجِيّة”- وزيرًا للصحَّة؛ وعَيَّنَ حسيب ابنَ عَمِّهِ عبد الجَبَّار الذي يعتبره من الشِقّ الأهبَلِ بين الكيَّالِيَّة، ومِن عديمي الموهبة حين ينظم الشعر، عينه رئيسًا لاتحاد الكُتّاب، وغالب العيَّاشي الذي خسر عدّة انتخاباتٍ نيابيةٍ منذ الخمسينيات، رئيسًا للبرلمان، وبين وزرائِهِ سيدةٌ من إدلب مشهورة بباروكتها عيّنها حسيب: وزيرةً للثقافة!
بعد عشرين عامًا من تلك الأمسية الساخرة، عُدتُ إلى إدلب صيفًا، فمررتُ بدكّان مدير عام مشفى الصرامي؛ وزيرِ الصحّة السابق: علي حسينو الذي كان مُلتقى أجيالٍ من شباب إدلب؛ فوجدتُهُ جادًا على غيرِ عادَتِهِ الساخرة؛ قال:
– سَهِرَ والدُكَ في دكّاني مَرَّةً واحدةً فقط، فقد كان كما يُقال “من البيت للشغل وبالعكس”، فلمّا سَمِعَ ضحكاتنا أنا وحسيب كيالي، انضمَّ إلينا واقفًا على قدميه؛ كأنما يريد الذهابَ ولا يريده، ثمّ جلس لساعاتٍ ونحن نروي الطرائفَ ونسخر ونضحك؛ حتى قطع صوتُ أذانِ الفجر ضحكاتِنا؛ عَلَّقَ والدُك:
– الله يعطينا خير هالضحك ويكفينا شرّه.
فلمّا أفقنا في الصباح كان أولُ انقلابٍ عسكريّ في سورية والعالم الثالث قد حدث.
قلتُ لعلي حسينو:
– أفظع السخريات التي يعقبها انقلاب!
قال حسينو:
– لهذا أريد والدكَ وحسيبًا هذه الليلةَ لنحييها حتى الصباح من جديد.
– من أين سأجلبُ لك حسيبًا وقد ماتَ في غُربَتِه؛ ولحِقَ بهِ والدي بعدَ أربع سنوات؟!.
عَلّقَ علي حسينو:
– لا حَلَّ إذًا؛ حتى ألحَقَ بهما إلى الجَنَّةِ؛ أو.. إلى جَهَنّم.
– بعد عُمرٍ طويل. مُستعجِل كثيرًا على الانقلابات؟!.
فأشار علي حسينو إلى صورةٍ لحافظ الأسد على الجدار المُقابِل له:
– طَوَّل هالعَرص.. كتير!
كان الاسكافيُّ الذي وُلِدَ بشللِ أطفالٍ في قدمَيه؛ مُستعِدًا للموتِ ضَحكًا، ليتخلّصَ السوريّونَ من طاغيتِهِم.
جيرون