السوريون في المنافي: قراءة في محاولات الانتقاص من المهاجرين وفرحهم بسقوط النظام… غطفان غنوم

 

 

لطالما شكلت الثورة السورية حدثًا مفصليًا في تاريخ المنطقة، حيث دفع السوريون ثمنًا باهظًا لمطالبتهم بالحرية والكرامة. ومع انقضاء أكثر من عقد من الزمان على انطلاقتها، شهدت سوريا تهجيرًا قسريًا لملايين من أبنائها الذين وجدوا أنفسهم موزعين في المنافي حول العالم، يعانون ويلات الاغتراب وخسارة الأوطان، بينما يكافحون من أجل تأسيس حياة كريمة في ظروف قاسية. وفي الوقت الذي يسجل فيه التاريخ انتصار الثورة وسقوط نظام الأسد، تطل علينا محاولات مغرضة للتشكيك في ولاء السوريين في الخارج وانتمائهم، وتوجيه اتهامات ظالمة لهم بالجحود أو التنكر لوطنهم.

محاولة الانتقاص من فرح السوريين في الخارج بسقوط النظام تُعد تضييقًا على حقهم الطبيعي في الشعور بالانتصار، بعد سنوات طويلة من المعاناة والتشريد. من غير المنطقي أو الأخلاقي أن يُطالب السوري في الخارج بالصمت أو الحياد في هذه اللحظة المفصلية. الثورة السورية لم تكن حكرًا على من بقي في الداخل، بل كانت قضية وطنية شاملة دفع فيها الجميع، سواء في الداخل أو الخارج، أثمانًا باهظة.

من الضروري التذكير بأن الهجرة لم تكن خيارًا طوعيًا أو نزوة عابرة، بل كانت نتيجة مباشرة للعنف الممنهج والدمار الذي مارسه النظام السوري بحق شعبه. قُصفت المدن ودُمرت المنازل وشُردت الأسر، ولم يجد الملايين بديلًا عن الفرار للنجاة بأرواحهم وأرواح أطفالهم. فكيف يمكن اعتبار من اضطر لترك بيته وأرضه جاحدًا أو خائنًا؟ المهاجر السوري لم يكن سائحًا في الخارج، بل كان إنسانًا يبحث عن ملاذ آمن، وعن فرصة لإعادة بناء حياته بعيدًا عن القصف والموت.

يحاول البعض تصوير السوريين في الخارج كرافضين للعودة إلى وطنهم بعد سقوط النظام، متناسين التحديات المعقدة التي تحول دون ذلك. أولًا، كثير من السوريين فقدوا منازلهم وأملاكهم في سوريا، ولم يعد لديهم مكان يأوون إليه. ثانيًا، القوانين والأنظمة في الدول المضيفة قد تشكل عائقًا أمام العودة المباشرة، حيث إن العديد منهم حصلوا على جنسيات تلك الدول أو يتمتع أطفالهم بحقوق قانونية تتطلب بقاءهم. إضافة إلى ذلك، فإن الأطفال الذين نشؤوا في بيئات مختلفة وتلقوا تعليمهم في مدارس أجنبية يجدون أنفسهم أمام واقع لغوي وثقافي جديد قد يصعب التكيف معه في حال العودة.

من أكثر ما يثير الدهشة هو استخدام عبارات نمطية تستهدف السوريين في الخارج، مثل القول إنهم “يعيشون في دول ديمقراطية ويرفضون الديمقراطية لسوريا”. هذا الاتهام عارٍ عن الصحة، فالسوريون الذين ثاروا ضد نظام الأسد طالبوا بالحرية والعدالة والديمقراطية، ودفعوا ثمنًا باهظًا لتحقيق هذه القيم. إن محاولة تصويرهم كمعادين للديمقراطية أو كمتناقضين مع مبادئهم، ليس إلا افتراءً يهدف إلى تشويه صورتهم.

إن وصف السوريين في الخارج بلون واحد أو تصنيفهم كشبيحة للنظام الجديد هو خطاب خطير يهدف إلى تهميش أصواتهم وقمع مشاركتهم. السوريون، شأنهم شأن أي شعب آخر، يتسمون بالتعددية والاختلاف، ولا يمكن اختزالهم في قوالب نمطية. من حقهم أن يفرحوا بسقوط النظام، ومن حقهم أن يعبّروا عن آرائهم بحرية دون أن يخشوا اتهامات بالتحزب أو التطرف.

ما يحتاجه السوريون اليوم، سواء في الداخل أو الخارج، هو خطاب جامع يحترم التضحيات التي قدمها الجميع، ويُعلي من قيم الحوار والتفاهم. إن محاولات التشكيك في وطنية السوريين في الخارج أو الانتقاص من فرحهم بسقوط النظام هي ممارسات لا تخدم إلا أجندات تقسيمية تسعى إلى إطالة أمد المعاناة. لذلك، فإن الواجب اليوم هو تجاوز هذه الخطابات الكيدية، والعمل معًا من أجل بناء سوريا جديدة تُعيد لكل أبنائها كرامتهم المهدورة، سواء كانوا في الداخل أو في المنافي.

 

 

 

 

 

مخرج وكاتب سوري – مصدر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى