حضن الوطن أم حضن قاتل أبنائنا؟! .. عبد الكافي عرابي النجار
بعد نشر مدونتي السابقة (سنرجع يوماً إلى حمصنا) فهم البعض أنّها دعوة مبطنة (مشفّرة) للسوريين ليعودوا إلى سوريّة مع وجود نظام بشار، وأنّ جرح الكرامة والمهانة في ظلّ نظام بشار أهون من جرح التشرد واللجوء والمعاناة.
ربّما يكون هذا خيار بعض السوريين الذين ضاقوا ذرعاً بالمعاناة والآلام، ولكن ما زالت أرقام العائدين تدل على أنهم مازالوا قلة قليلة، وحال أكثر السوريين يشير إلى أنّهم لن يعودوا قبل رحيل نظام بشار، ولم ولن يقبلوا بأقل من رحيله.
أبعد ست سنين عجاف أكلن كلّ ما فينا، أجسادنا وأرواحنا وأولادنا وأموالنا وبيوتنا وكرامتنا، وصرنا فيهنّ حديث القاصي والداني، وحجزن لنا عموداً دائماً في نشرات الأخبار الصباحية والمسائية، يخوّف الطغاة بنا شعوبهم، ويحذّرونهم مصيراً كمصيرنا، أوَ بعد القتل والحرق والهدم والغرق والكيماوي، أبعد كل هذا، يمكن أن نرجع إلى حضن قاتلنا، فإذا كان العالم قد تخلى عن واجبه الإنساني والأخلاقي والقانوني، وبدأ يلمّح تارة ويصرّح أخرى بأنّه لا مانع من بقاء بشار.
وأنّه حقّاً خائف على من بقي من أولادنا، ويريد حقن دمائهم. فإنّ السوريين وحدهم يعرفون ماذا يعني أن يعودوا لحضن قاتلهم، أمّا دموع التماسيح التي تذرفونها خوفاً على من بقي من أولادنا فوقائع السنين الست العجاف وأحداثها تصفع وجوهكم المنافقة.
هل تظنون أنّنا لا نريد أن نحقّن ما تبقّى من دماء أولادنا؟ هل تظنون أنّ أولادكم أغلى عليكم من أولادنا علينا؟ هل تظنون أنّكم تحبون أولادكم أكثر ممّا نحبّ أولادنا؟ ألا تعرفون أنّنا نقدّم أرواحنا ليعيشوا حياة طيّبة؟
ألا تعرفون أنّنا لو خيّرنا بين حياتهم وحياتنا، قدّمنا لهم حياتنا؟ وقد عشنا حياة طويلة ويكفينا ما رأينا من نصبها وتعبها وهمّها، ألا تعرفون أننا كنّا نعدّ لهم مستقبلاً في هذه الأرض يرضيهم ويرضي ربّهم عنهم؟ هل تعلمون كم ناي حزينة تنوح في فضاءات نفوسنا تذكّرنا بأنهم بعيدون عنّا؟ وأنّهم في أي لحظة قد يصبحون خبراً؟ هل تعرفون ماذا يعني أن تفقد قطعة منك؟ ألا تعتقدون أنّ لهم أمهات يتذكرنهم في اليوم عشرات المرات، هنا قال، هنا فعل، هنا ضحك، هنا بكى، هنا نام، هنا استيقظ، هذا قميصه، ألا تعتقدون أنّ لهم أمهات كنّا ينتظرن بفارغ الصبر اليوم الذي يفرحون فيه بهم، ألا تعتقدون أنّ لهؤلاء الشباب إخوة وأخوات تهفو قلوبهم لرؤيتهم، وتجمعهم بهم آلاف الذكريات؟!
أولادنا أغلى علينا ممّا تظنون أيّها الحريصون على ما بقي من دمائنا لم يسفك، نحن نعرف ماذا يعني أن نعود لحضن قاتلنا لنعيش من جديد لحظات الخوف والذل والمهانة في كلّ تفاصيل حياتنا، أولادنا أغلى علينا ممّا تظنون أيّها الحريصون على ما بقي من دمائنا لم يسفك، ولكنّ حقّنا الضائع منّا أغلى علينا منهم، رفع الظلم أغلى علينا منهم، حريتنا وكرامتنا أغلى علينا منهم، وإنمّا نربّيهم لمثل هذه الساعات العصيبة التي تعرف فيها معادن النّاس، وليس لنا منّة على أحد، إنّما نقدّمهم لمن منّ بهم علينا، وهو أولى بهم منّا، وهو أرحم بهم منّا.
شكراً لأنكم تخافون على أولادنا، شكراً لعواطفكم النبيلة ومشاعركم الجيّاشة، لكن اعلموا نحن فقط نستطيع توصيف حالتنا ومصيبتنا، إنّ من بقي من أهل سوريّة في المدن والبلدات المدمرة وشبه المدمرة أو المحاصرة، ومن يقبع في سجون نظام بشار ومن يعيش في مخيمات البؤس على جوانب سوريّة الأربعة، ومن هجّر إلى بلاد الله الواسعة، هم فقط يعرفون الداء ويعرفون الدواء.
أيّها النّاس لم نثر ترفاً، ثورتنا كانت ضرورة إنسانيّة أولاً، وضرورة وطنيّة واجتماعية ونهضوية وأخلاقية ثانياً، ثورتنا فريدة في ظروفها، فريدة في أبطالها، فريدة في ضحاياها، فريدة في جغرافيتها، فريدة في خذلان العالم لها.
– ثرنا على نظام طائفي مخابراتي يستخدم أسلوباً واحداً في تسيير شؤون البلد ودفة الحكم، وفي جميع المجالات (من الاقتصاد إلى الرياضة) هو أسلوب القمع والإرهاب والتخويف.
– ثرنا على نظام يملك جيشاً هائلاً من رجال الأمن والشبيحة الذين لا ينتمون للبشر إلا بالأشكال فقط، وهم مستعدون لفعل أي شيء من أجلّ بقاء سيدهم.
– ثرنا على نظام لا يعرف إلا استخدام القوة والعنف والبطش في التعامل مع المخالفين، نظام يحاسب على النوايا، ويستخدم أشدّ أنواع البطش والتنكيل على مجرد الاحتمال.
– ثرنا على نظام يعتقد أنّ سفك دم المعارض ودم أهله واجب لمجرد أنّه معارض.
– ثرنا على نظام ينتقم من المعارضين فينتهك أعراضهم، ويدمر بيوتهم، وينهب ممتلكاتهم، ويحرق زروعهم، ويقطع عنهم الماء والغذاء والكهرباء والدواء.
– ثرنا على نظام يتمنى المعارض له أن يقتل قبل أن يعتقل، لما سيراه من أهوال يسهل الموت عندها، حيث تمتزج في الجلاد ساديّة وجهل وطائفية.
– ثرنا على نظام يهدم المدن فوق رؤوس أصحابها، ويقصفهم بالطائرات والمدافع والدبابات، ويشرّد ما تبقّى منهم في الفيافي والقفار والمخيمات.
– ثرنا على نظام استقدم كلّ الحاقدين طائفياً وتاريخياً من كلّ بقاع الأرض ليقتلوا أبناءنا.
– ثرنا على نظام يخيف جيرانه ليس بقوة يملكها، وإنّما بعدم وجود حدّ أدنى من ضوابط أخلاقية تحكم أسلوب تعامله.
– ثرنا على نظام جعل من قضية فلسطين مطية وسلعة يتاجر بها لضمان بقائه جاثماً على صدور السوريين، مع أنّه ضمن سلامة حدوده مع دولة الصهاينة أكثر من أربعين عاماً من غير أن يرتبط معها باتفاقية سلام. وجعل من بعض التنظيمات الفلسطينية ذراعاً يقتل بها السوريين.
– السوريون استمروا في ثورتهم أكثر من ست سنين قدّموا فيها تضحيات فاقت ما يتخيّله كتّاب الملاحم، فقدوا حوالي مليون شهيد من أبنائهم مع تخاذل العالم وشلل المؤسسات الدولية، وسيستمرون حتى يرحل قاتلهم ولن يعودوا إلى حضنه.
زمان مصدر