هل خُلقت المرأة من ضلعٍ أعوج حقاً؟ .. علي الصلابي
يُثار الكثير من النقاش والجدل الفكري، واختلاف في وجهات النظر، حول قصة بدء الخلق، وكيف خلق الله تعالى أول البشر، آدم (عليه السلام)، والحقيقة الكاملة في قصة الخلق وخلق آدم عليه السلام في القرآن الكريم، وما صح عن النبي ﷺ. وإن من أكثر المسائل التي يُختلف عليها من حيث ماهية الخلق أو طبيعته، هو ما يُروى عن خلق أمّنا حواء من ضلع آدم، عليه السلام، وعليه فقد خُلقت من ضلع أعوج، ويُستخدم ذلك الادعاء في سياق الحط من قيمة حواء عليها السلام، والحط من مكانة جنسها، أي النساء بشكل عام. فهل هذا الادعاء صحيح؟ وما هي حججه؟
إن استنادنا في هذا التفسير سيكون كتاب الله -تبارك وتعالى- لأنه خير مصدر ليخبرنا عن قصة أمّنا حواء عليها السلام.
قال الله -عز وجل- لآدم -عليه السلام-: ﴿اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ﴾، وهذا معناه أن آدم عرف أن هذه المخلوقة الأنثى “حواء” زوجٌ له، ولم يكن في الجنة أنثى غيرها، لأنه كان في الجنة الملائكة، وهؤلاء لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة، وفيها إبليس، وهو من الجن.
وفي هذه الآية أدخل الله -عز وجل- حواء في خطابه لآدم، وقد سُميت حواء لأنها أمُّ جميع الأحياء من الجنس البشري.
ووضح الله لنا أن كل خلق من خلقه إنما هو خلق من زوجين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [سورة النساء: 1].
أ. قال الشيخ متولي شعراوي: إن حواء لو كانت ضلعاً من آدم لقال الحق تعالى: جعل منها زوجها، ذلك أن الجعل بعض الأخذ من نفس المادة وصناعة ما يريد، وهو الحق المالك لكل الكون.
إن قول الله تعالى: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ هو تعبير عن خلق جديد مستقل. إلى أن قال: أي خَلَقَ حواء مثلما خلق آدم، وكما أوضح لنا الحق تعالى أنه خلق آدم من طين، فكذلك خلق حواء.
ب. قال الدكتور صلاح الخالدي: وقد ذهب بعض العلماء المفسرين إلى أن حواء مخلوقة من نفس آدم، واعتمدوا في ذلك على ظاهر قوله: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾، أي إن حواء مخلوقة من بعض جسم آدم؛ لأن “مِن” تدل على التبعيض، وهذا المعنى هو ضلع آدم.
ولا نعتبر الآية دالة على هذا؛ لأن الآية تتحدث عن تكريم الله للرجال والنساء جميعاً، ويخبرنا الله أنه خلقنا نحن البشر “من نفسٍ واحدةٍ”، وخلق من هذه النفس الواحدة زوجها، والمراد بالنفس الواحدة هنا النفس الإنسانية التي تتمثّل فيها الطبيعة البشرية، هذه النفس المكوّنة من مادة وروح، والمتمثّل فيها الكيان البشري بما فيه من أعضاء وأجهزة، يقوم عليه جسمه المادي بما فيه من مشاعر وأحاسيس وصفات وسمات وغرائز وشهوات وآمال وتطلعات، وما فيه من قلب وروح وتصور وفكر وخيال، هذا الكيان الإنساني كله هو النفس التي خلقها الله.
وخلق الله من هذه النفس الواحدة المتكاملة الرجل، ثم خلق من هذه النفس الواحدة المتكاملة المرأة. وأول نموذج عملي للنفس الواحدة هو آدم أبو البشر عليه السلام، الذي تمثلت فيه النفس الواحدة بكامل خصائصها وسماتها.
وثاني نموذج للنفس الواحدة زوجه حواء، التي خلقها الله وجعلها زوجاً له، وتمثلت فيها النفس الواحدة بكامل خصائصها وسماتها، مع فروق فردية جعلها الله الحكيم –بيولوجياً وعاطفياً- بين الرجل والمرأة ليقوم كل منهما بدوره في الحياة.
وهذا معناه أن الرجل نفس إنسانية سوية بجسمه وروحه وشخصيته، وأن المرأة نفس إنسانية سوية لها جسمها وروحها وشخصيتها، وهي معززة مكرمة كالرجل، وليست أدنى أو أحطّ منزلة منه، وهذا تكريم وتشريف عظيم للمرأة.
ليس المراد بالنفس الواحدة في الآية آدم عليه السلام حتى نقول: إن الله خلق له منه زوجه حواء؛ إنما هي النفس الإنسانية التي خلق الله منها آدم أولاً، ثم خلق منها حواء بعد ذلك، ثم بثّ منهما رجالاً كثيراً ونساء.
واللطيف أن هذه الآية التي تتحدث عن النفس الواحدة التي خلق الله منها الرجل والمرأة في صدر سورة النساء، التي تتحدث كثيراً عن النساء وأحكامهن، وبهذا نرى أن القرآن –والإسلام- قد كرّم المرأة تكريماً عظيماً عندما اعتبرها كياناً شريفاً فاضلاً مخلوقاً من النفس الواحدة التي خُلق منها الرجل.
ج. قال الدكتور سلمان العودة: كيف خُلقت حواء؟ في العهد القديم والروايات الإسرائيلية أنها خلقت من ضِلَع آدم الأيسر، ومسؤولية هذا الحرف ليست على صريح القرآن ولا صحيح السنة، ولكن في القرآن “خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا”، ظاهر هذه الآية أن حواء
خُلقت من آدم، لكن دون تعيين الموضع، وفي الحديث: (إن المرأة خلقت من ضِلَع)، وهكذا يحتمل أن تكون خلقت من ضلع آدم، أو تكون تلك إشارة إلى طبيعة المرأة وفطرتها وروحها وعاطفتها، كما في قوله: ﴿خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ [سورة الأنبياء: 37]، ولذا قال بعده: (وإن ذهبتَ تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها).
وقيل خلقت خلقاً مستقلاً من الطين كآدم.
بعد طول تردّد في المسألة صرت أميل إلى أنها خلقت من ضلع آدم، فهو جارٍ على ظاهر المعنى، وليس فيه تنقيص للأنثى؛ فهي خُلقت من شيء حي متقدم على التراب والطين، وهو العظم اللين في جنب آدم، والذي هو بطبيعته مائل ليكون على استدارة الجنب، وهذا من كمال الخلقة، ولولا اعوجاجه لم يكن ضلعاً.
قال ابن عباس: خُلقت حواء من ضِلع آدم الأقصر الأيسر وهو نائم.
وكان آدم نائماً يوم خلقت منه، وكأنها عملية استنساخ، ويبدو -والله أعلم- أنها خلقت من نخاع العظم، فلكل ضلع نُخاع، والإعجاز هنا استنساخ الأنثى من الذكر بعد أن كانت كامنة فيه لتتمحَّض رجولته وتستقلّ أنوثتها، وكأن نومه يشبه التخدير لإتمام عملية الاستلال، ولله الحكمة البالغة.
وتفصيلات الحقائق الماضية لا يلزم أن تمتلك دليلاً قطعياً يذعن له الناس جميعاً، والخلاف فيها سائغ، وربما كان دليل الوجدان العاطفي القلبي الروحي لا يقل أهمية عن الدليل العقلي المنطقي.
والحنين المتبادل والاحتواء والحب يوحي بأن الزواج السعيد يمثل حالة عثور الشطر على شطره الآخر، وكما هو استكمال للدين فهو استكمال للشخصية.
كما لم نجد في أحاديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أنها مخلوقة من ضلع آدم، بل من ضِلَع، والضِّلَع من معانيها المشقة والتعب والاعوجاج والجور، كما في كتب اللغة:
– ضَلِعَ الرُّمحُ ضَلَعاً اعوجَّ.
– والضَّالع الجائر، وقد ضَلِعَ يضلَعُ مالَ، ومنه ضَلعُك معَ فلانٍ.
– ضَلِعَ عنِ الحق: مالَ وجارَ. وأضلعَ الحِمْلُ ثَقُلَ.
وقد أخبرنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أن المرأة خُلقت من ضِلْع فما المراد بهذا الضِّلْع؟
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خُلقت من ضِلْعٍ، وإنَّ أعوجَ ما في الضِّلْعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمُهُ كسرتَهُ، وإن تركتَهُ لم يزل أعوجَ، فاستوصوا بالنساء خيراً).
وحمل بعض العلماء الضلع المذكور في الحديث على ظاهره، واستصحبوا في ذاكرتهم الإسرائيليات التي تحدَّثت عن خلق حواء من آدم، وقالوا: يصرّح الحديث بأن حواء خُلقت من ضلع، فلماذا تخالفونه ولا تقولون بذلك؟
تخبر الإسرائيليات وأساطير العهد القديم أنه بينما كان آدم نائماً وحده في الجنة أخذ الله ضلعاً من أضلاع جانبه الأيسر وخلق من ذلك الضلع حواء في لحظة، وجعلها امرأة حية فيها كل الملامح الأنثوية، وجلست بجانب آدم، فلما استيقظ ورآها قال لها: من أنتِ؟ قالت له: أنا حواء، قال لها: وما معنى ذلك؟ قالت: أنا امرأتك، خلقني الله من ضلعك، وجعلني لك، فتحسَّس آدم أضلاعه فوجدها ناقصة، فحنَّ إلى حواء لأنها جزء منه.
هذه إسرائيليات موجودة في أسفار العهد القديم، وقد نقلها الإخباريون المسلمون، لكن لا يوجد في القرآن والسنة الصحيحة ما يؤيّدها، ولذلك نتوقف نحن فيها؛ لا نصدّقها ولا نكذّبها، ولا نقول بها، والعلم عند الله سبحانه.
إن الحديث الصحيح السابق لا يدل دلالة صريحة على أن حواء خُلقت من ضلع آدم، وهو لا يتكلّم عن أمّنا حواء، وإنما يتكلّم عن المرأة عموماً.
والنبي – صلى الله عليه وسلم- استخدم ضلعاً على سبيل المجاز لا على الحقيقة؛ لتأكيد الوصية بالنساء، لما يلقى في المرأة من ضعف، وأنه لا بد من حسن معاملتها والرفق بها؛ لأن معاملة المرأة في ذلك الوقت كانت متعسّفة، حتى إنها كانت تدفن حية ولا ترِث، والأدهى من ذلك أن المرأة نفسها كانت تورَث، فجاء كلام النبي – صلى الله عليه وسلم- من باب الحرص على النساء والوصية بهن.
والأحاديث التي وردت فيها كلمة ضلع لم يرد فيها ضلع آدم، لذا نقول: إن المعنى هنا على سبيل المجاز لا الحقيقة، كالمشقّة والتعب والميل والجور، وما يتناسب مع ذلك.
والدليل على ذلك: هل المرأة خلقت من الزجاج الذي تصنع منه القوارير؟ بالطبع لا، فإذا استخدم النبي – صلى الله عليه وسلم- هذا اللفظ فهو على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة، من مثل قوله – صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم في باب: “رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالنساء”، عن أنس قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، وغلامٌ أسودُ يقال له أنجشة يحدو، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (يا أنجشة رويدك سوقاً بالقوارير).
فالقوارير مفردها قارورة، والقارورة مصنوعة من الزجاج، والمرأة ليست مخلوقة من الزجاج، ولكن هذا من باب المجاز كناية عن لين المرأة وضعفها والرفق بها، ومن باب التساوي بين آدم وزوجه ما كان لهما في الجنة من أوامر ونواهٍ ودلالة تلك الأوامر والنواهي.
إن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرّب الطبيعة العاطفية الانفعالية عند المرأة إلى أذهاننا. يُصوّر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التصوير البليغ المعبّر، حيث عرض ذلك في صورة ضلع، فمن المعلوم أن الضلع أعوج، وأن أعوج ما في الضلع أعلاه، وأنه يستحيل تقويم الضلع وإزالة اعوجاجه، ومن فعل ذلك فسوف يكسره، وعلى الإنسان أن يتصرف مع الضلع على أساس اعوجاجه، وهكذا خلق الله المرأة عموماً.
فسواء أخلقت أمنا حواء من ضلع آدم أم لا، وسواء كان هذا الضلع أعوج أو غير ذلك، فإن هذا لا ينقص من كرامة حواء عليها السلام، ولا يحط من مكانة جنسها النسوي. ولكن إرادة الله قضت بأن تخلق حواء بعد آدم بخصائص نفسية وجسمانية مختلفة تناسب طبيعتها والوظيفة التي خلقت لها، وقد خلقها من النفس الواحدة التي خلق منها آدم عليه السلام. فهي زوج آدم عليه السلام وبنات جنسها شقائق الرجال من بعده.