
من يتعمّد إقصاء النساء من المشهد العام في سوريا؟
هل يتم إقصاء النساء في “سوريا الجديدة”؟
تردّ الناشطة السورية ريما فليحان: “إنه تحدٍّ هائل تقف أمامه السوريات اليوم، وبكل أسف، لا أشعر سوى بالتشاؤم”.
هذا السؤال لم يعد مجرّد ملاحظة عابرة، بل بات يتكرر مع كل مشهد تصدِّره الحكومة الجديدة، ويثير قلقاً مشروعاً حول موقع النساء في سوريا ما بعد سقوط ديكتاتورية الأسد.
فبعد التمثيل النسائي الهزيل الى حدّ التلاشي في الحكومة والمناصب العامة، تكررت مشاهد ووقائع مقلقة. أحدثها حملات ترويجية لقناة “الإخبارية السورية” قبل إطلاقها، ومشاهد لزيارة وفد من الناشطين والإعلاميين للاطلاع على سير العمل قبيل إعادة إطلاق القناة. الصورة لا تخطئها عين: وفد كامل من الرجال، من دون حضور أي امرأة…
ينفي البعض مسألة غياب مذيعات وعاملات عن المشهد في القناة، لكن الفيديو الترويجي الذي يفترض أنه يعكس أبرز وأهم ما في القناة التي يفترض أنها تمثّل صوت السوريين والسوريات، كان الحضور الذكوري فيه طاغياً، والإقصاء النسوي واضحاً وفجاً. وعلى رغم وجود مذيعات في الفريق، إلا أنهن لم يظهرن في مشهد أساسي ومركزي كمتابعة سير العمل أو اتخاذ القرار، وهو ما يثير تساؤلات حول تغييب حضورهن عن مواقع القيادة والتمثيل العلني في الإعلام ومختلف مفاصل الحياة العامة.
غياب النساء في الفضاء العام
تصدير صورة يظهر فيها الرجال وحدهم في صدارة المشهد، يعكس رغبة ضمنية – أو حتى مقصودة – في ترسيخ صورة نمطية تضع الرجل في موقع السلطة والمبادرة، وتدفع بالنساء إلى الهامش، ولو كنّ حاضرات بالفعل ضمن الفريق.
خلال خمسة أيام من المتابعة (2-6 شباط/ فبراير 2025)، رصد فريق موقع “سناك سوري” المحلّي محتوى صفحات محافظات سوريا لشهر كانون الثاني/ يناير، ولاحظ حضوراً ضئيلاً جداً لصور النساء.
في حمص مثلاً، نادراً ما تظهر النساء على صفحة المحافظة، وفي لقاءات رسمية جمعت مسؤولين بقادة الكشافة، أو خلال اجتماعات المحافظ مع مديري الزراعة والتربية، غابت صور النساء تماماً، واقتصر حضورهن على ثلاث صور فقط: امرأة في اجتماع تشكيل لجان، أخرى تعانق ابنها بعد الإفراج عنه، وثالثة ضمن حملة إنسانية.
لكن هذا ليس مشهداً استثنائياً، ففصل النساء عن الرجال بات يتكرّر في أماكن متعددة: في صحن الجامع الأموي، في مستشفى المواساة بقرار إداري، في وسائل النقل العامة، بل وحتى في الشارع، حيث يستجوب عناصر الأمن العام رجالاً فقط لأنهم برفقة نساء.
هذه المؤشرات كله تطرح تساؤلات مشروعة: هل نحن أمام سياسة رسمية تتجه نحو تقليص حضور النساء في الفضاء العام؟ وهل تحظى دمشق كونها العاصمة ومركز الاهتمام، باستثناءات لصالح التشدّد في المناطق الأخرى؟
هل تحاول القيادة الجديدة أو فصائل فيها فرض رؤيتها المتشدّدة على المجتمع، وسط صمت أو تواطؤ مؤسسات الدولة؟
وهل غياب النساء المتكرر عن المشهد العام هو مجرد تقصير، أم أنه بداية لتطبيع أوسع مع تذكير الحياة العامة وتحويل النساء إلى “ضيفات صامتات” في وطنهن؟
“مشروع سلطوي ذكوري”
تتعدد طرق استبعاد النساء الحالية في المجتمع السوري، ما بين إجراءات قانونية وتنظيمية، تصرفات تكرس التمييز، وأحياناً قرارات إدارية تبدو للوهلة الأولى غير ذات تأثير، لكنها تحمل في طياتها رسائل واضحة حول مكانة المرأة في المجتمع.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو منع المحاميات والمحامين من الاختلاط مع موكليهم وموكلاتهم في بعض الدوائر القضائية. هذه السياسات، التي توظف مفاهيم مغلوطة عن “الاحتشام” و”الآداب العامة”، تستند إلى مبادئ اجتماعية تتجاهل كفاءة المرأة المهنية وتضعها في إطار ثانوي في المجتمع القانوني.
قرار مدير مستشفى المواساة، إصدار تعليمات إلى العاملات في المستشفى من الطبيبات والمساعدات الطبيّات، بأن يجلسن في القسم الخلفي للباصات المخصصة لنقل الموظفين، كان بمثابة خطوة تمييزية تتناقض مع أبسط قواعد العدالة والمساواة بين الجنسين في مكان العمل.
وبعد موجة استياء واعتراض، تراجع المدير عن قراره، ليعبر عن دهشته من إثارة مثل هذا القرار كل هذه الضجة.
الناشطة النسوية ريما فليحان قالت لـ “درج”: “كل هذه الممارسات لا يمكن قراءتها إلا باعتبارها جزءاً من مشروع سلطوي ذكوري يُقصي النساء عن الفضاء العام، ويكرّس أدواراً نمطية يجعلهن مجرد تابعات، تتم الاستعانة بهنّ فقط عند الحاجة لتحسين صورة النظام أمام المجتمع الدولي، كما يحدث عند تعيين وزيرة واحدة في الحكومة، من دون منح النساء فعلياً أي دور حقيقي في الإدارة أو العمل الأهلي أو في اللجان الفاعلة”.
وبحسب فليحان، لم تنل السوريات حقوقهن في عهد النظام السابق، لكن المريع أن يستمر هذا الوضع بعد نجاح الثورة التي تمثل انتصاراً للعدالة والمساواة. تلفت فليحان: “لا أظن أن مستقبلاً أفضل ينتظر النساء في ظل منظومة فكرية سلطوية جديدة، تستمدّ مشروعها من خلفيات متشددة لا تؤمن بالمساواة ولا بالديمقراطية ولا بالحريات، العامة منها والفردية. وحتى لو ظهر ضمن هذه المنظومة من يحاول التقدّم خطوة نحو الانفتاح، فإن التيار السائد فيها يسيطر عليه المتشددون فكرياً، الذين يرفضون بطبيعتهم أي مبدأ يرتبط بالحريات أو المشاركة السياسية أو العدالة الجندرية”.
قراءة إقصاء النساء في السياق السياسي
الصحافية لجين الحاج يوسف تقول لـ”درج”: “لا يمكن قراءة سلسلة الإجراءات الأخيرة بمعزل عن السياق السياسي الأوسع الذي تمر به البلاد. فمع العجز المزمن في تحقيق أي تقدم على المستويين الأمني والمعيشي، يبدو أن السلطة اختارت تحويل أجساد النساء وسلوكهن إلى مساحة بديلة لإظهار السيطرة والنفوذ”.
وتعتقد لجين أن ما يزيد من خطورة هذا المسار هو أنّ الدولة لا تعتمد فقط على القرارات الفوقية، بل بدأت تعمل على تحريك بعض الجموع المحافظة أو تلك التي قد تكون وجدت في المناخ الجديد فرصة لها، كما حدث في منطقة التل من دعوات لإغلاق الملاهي الليلية، أو الاعتراض على المسابح المختلطة.
تضيف لجين: “هذه المطالب، وإن بدت “شعبية”، لكن النظام يوظِّفها لتعزيز سياسات الضبط الاجتماعي، بما يخدم مشروع إعادة بناء سلطة محافظة تحت غطاء ديني – أخلاقي”.
وترى لجين أن السلطة في سوريا تعمل على مستويين متوازيين، فمن جهة، تفرض قيوداً باسم النظام والانضباط، ومن جهة أخرى، تشجع على التعبئة الاجتماعية المحافظة، ما يخلق مشهداً من الرقابة الجماعية التي تشكّل النساء أولى ضحاياها.
وبحسب لجين، في مجتمعات يغلب عليها الطابع المحافظ، يجد هذا الخطاب صدىً سريعاً، إذ يتقاطع الخطاب الديني مع السلطة الذكورية لتقديم “المصلحة العامة” من بوابة إخضاع النساء وتقييد مشاركتهن في الحياة العامة.
وتختم حديثها قائلة: “إنها محاولة لإعادة تشكيل المجتمع على صورة طاعة جديدة، لا تُخفي فشلها في إدارة شؤون الناس، بل تلهيهم عن ذلك بمعارك “أخلاقية” مفتعلة”.
؟