السكبة السورية… تاريخ من المحبة والنهفات .. بديع صنيج
تستدعي ذاكرتي مراراً ذاك المشهد ضمن منزلنا في حماة، عام 2009، عندما رافقني صديقي من دمشق بقصد الاطمئنان على صحة والدي. وصلنا عند الواحدة والنصف ظهراً، وكان ثمة العديد من الزوار الذين يُرفِّهون عن والدتي ووالدي، بعدما أصبحا أسيري البيت، ولم يمض من الوقت أكثر من ساعة حتى رن الجرس، فتحت الباب، وبعد تهنئتي بالوصول بالسلامة، والاطمئنان على أحوالي من قبل جارتنا أم رشاد، عُدتُ مع طبق فيه زبدية من حب الفاصولياء الشهي، وصحن للرز المُبَهَّر، وبعض من الفليفلة الخضراء، ومَمْلحة وقليل من الكمّون الطازج.
بعدها بأقل من نصف ساعة عاود الجرس رنينه، وإذ بجارتنا أم أحمد وبين يديها طبقٌ كسابقه تقريباً مع اختلاف الطبخة، فهو صحن من المجدَّرة، وبجانبه البصل المُقلّى، وزبدية كبيرة من السلطة، وأيضاً بعض الملح وكيس فيه رغيفان مُقطَّعان إلى مثلثات كما أفخم المطاعم.
كَظَمَ صديقي استغرابه، مُتابعاً أحاديث والدي الممتعة عن مغامراته أيام العزّ ونكاته المحببة، لكنّ فضوله لم يلق مجالاً للسكوت بعدما عَلِمَ أن والدتي ذهبت إلى المطبخ لتطمئن على استواء “اليبرق” أي ورق العنب الملفوف وحَمْضِه، فما كان منه إلا أن بادرها بالسؤال، بعد أن شعر أن ما يراه بأم عينيه هو من عالم آخر، فقال: “يا خالة، إن كانت جاراتك بكرمهن يُساعدنك على الاهتمام بعمي أبو بديع، ويضعنك أمام إمكانية أن ترتاحي من الطبخ والنفخ، فلماذا تُعذِّبين نفسك ساعات في لفّ ورق العنب وطبخه؟”، فما كان من والدتي إلا الابتسام في وجه استغرابه قائلةً: “يا ابني وهل من المعقول أن أردّ أطباق الجيران فارغة؟!”.
مشاهد راسخة
هذه الذكرى ليست من الماضي البعيد، كما أنها ليست خاصة بمحافظة أو منطقة دون سواها، وأيضاً هي ليست مقتصرة على شهر رمضان، مع أنها تتعزّز فيه، فمن عادات السوريين في المحبة والألفة عادة “السكبة”، أو ما يُسميها البعض “القرضة” من الإقراض، بمعناه الجميل وليس التجاري.
وضمن الأحياء القديمة، أو في المباني التي يعرف سكانها بعضهم البعض، تعتبر “السكبة” من الأمور التي توطد أواصر الألفة بين الجيران، ليبقى منظر الأطفال وهم يحملون الصحون الممتلئة بألذ الأطعمة وأشهاها، ثم يطرقون أبواب جيرانهم، مبادرين بالقول: “بتسلِّم عليكن الماما وبتقلكن ألف صحّة وهنا”، من أكثر المشاهد رسوخاً في ذاكرة السوريين، كما أنها وسيلة لكسر الجليد مع السكان الجدد، إذ ترسل النساء سكبة لهم، وشيئاً فشيئاً تتوطد العلاقة مع الجارة الجديدة، بحيث يمكن أن نُحوِّر المثل القائل بأن “الطريق إلى الرجل يمرّ عبر معدته”، ليصبح “الطريق إلى العشرة الطيبة يمرّ عبر السكبة”.
عادة السكبة تاريخياً
أما عن تاريخ عادة السكبة، فيروي الباحث السوري منير كيال في كتابه “دمشقيات مرابع الطفولة ومهوى الأفئدة”، أن أحد فقراء الشام كان يتلقى أطباق الطعام من جيرانه كل يوم، إلى أن زاره ذات يوم شخص من الريف وقت الغداء، وكان الزائر مُحْرَجاً من ذلك، لكنه عندما دعي إلى مائدة الطعام وشاهد أكثر من عشرة أطباق مختلفة من الطعام فوجئ كثيراً، وقبل البدء بالطعام طُرِقَ الباب، ولاحظ الزائر أن صاحب المنزل أتى بطبق طعام جديد مِن الطارق، ففهم ما حصل، وأصبح يروي ما شاهده لمن يلتقيهم، حتى شاعت القصة بين عموم العائلات السورية، وأصبحت من العادات والتقاليد بين جميع السوريين دون استثناء.
ويوضح كيال أن السكبة لا تفرّق بين غنيٍّ وفقير، إذ كان الفقير يسكبُ للغني، وكان الغنيُّ يفعل الشيء ذاته، وكانت سكبة كل طبق حجمهُ، وبذلك يحدث نوع من التوازن في الحارة، بمعنى أن السكبة كانت جزءاً من طريقة الأخذ والعطاء التي كانت سائدة، ولعلها امتداد مُحرَّف لطريقة المُبادلة والمقايضة القديمة، لكنها في جميع الأحوال كانت تكريساً للتداخل بين الأسر، التعاطف القائم بين الناس وتبادل المحبة.
ويلفت كيال في كتابه الأقدم “رمضان في الشام” إلى أن من فوائد عادة السكبة، أن الطعام كان يُطبخ لأكثر من يوم، ومن دون تنويعه لكون تلك العادة ستوفر العديد من الأكلات، بحيث كانت السكبة تؤخذ بعين الاعتبار ويعتمد عليها، وخاصة في شهر رمضان، فلا تكثر النساء من صنع أطباق طعام كثيرة خشية التبذير، ولكون الطعام سيأتي بمختلف أشكاله على وجبة الفطور قبل ضربة المدفع بدقائق، لذلك كانت السكبة من العادات الهادفة إلى التعاون والتراحم والمحبة بين الجيران، إضافة إلى عدم التبذير أو الإسراف.
سبب للفكاهة والتندر
وإلى جانب الجماليات الكثيرة لفكرة السكبة على الصعيد الإنساني، فإنها كانت سبباً للفكاهة والتندر والمفارقات التي ترسم البسمة على الوجوه.
ومن الحكايات المتداولة شفاهياً عن السكبة، أن امرأة نامت لما قبل المغرب بقليل، فلم يعد لديها وقت لتحضير طعام الإفطار، لذا سَلَقَتْ عَدَساً وصبّته في سبعة صحون كبيرة، وطلبت من ابنها أن يوصلهم تباعاً إلى بيوت الجيران، وما هي إلا دقائق حتى عادت صحونها بأطايب الأطعمة، من ملوخية، وحرّاق بإصبعه، وبعض أقراص الكبّة، وصحن فتُّوش، وآخر للقطائف المحشوّة بالقشطة والمزينة بالفستق الحلبي، وعندما علم زوجها بفعلتها سلّمها مصروف المنزل لتديره، بعدما كان يتمنع عن ذلك، واصفاً إياها بأنها أدهى من ميكيافيللي بحد ذاته.
مفارقة أخرى أن امرأة شمَّت من منزل جارتها رائحة “الملوخية” وهي من الأكلات الأحبّ إلى قلبها وقلب زوجها، فلجأت إلى صحنٍ كبير الحجم من مطبخها، وملأته بالمجدرة التي كانت طعام إفطارهم لذاك اليوم، وأرسلته مع ابنها، وأوصته بأن يكون لبقاً زيادة عن اللزوم، ويقول للجارة بأن “أمي تذكَّرتكم بهذه الأكلة المقدَّرة”، فما كان من تلك الجارة إلا ممازحة جارتها، بأن أعادت لها الصحن مليئاً بالأرز، وما أن وصل الابن ومعه ذاك الصحن، حتى تفاجأت أمه أيما تفاجؤ، واستغربت أيما استغراب، وبدأت تُبربِر بينها وبين نفسها، لاعنةً حظَّها وشهوتها للملوخية، لكن ما هي إلا دقيقتان حتى قُرِع بابها، وما أن فتحته حتى رأت ابن جارتها وبيده صحن طافح بالملوخية وعلى وجهه قطع السفائن ورائحة الكزبرة تشرح القلب، قائلاً: “بتسلِّم عليك الماما وبتقلك: ابنك استعجل ونسي ياخد الصحن الرئيسي معه”، فابتسمت وفرفح قلبها.
ومن النهفات المتواترة شفاهياً أيضاً أن مجموعة جارات تعتدّ كل منهن بأنها الأمهر في الطبخ وصاحبة النفس الأطيب، وتتعفّف كل منهن عن طبخات الأخرى. وعندما جاء رمضان أرسلت إحداهن سكبة إلى جارتها، فبادرتها الأخيرة بالمثل، ثم قامت الأولى بإرسال ما وصلها من جارتها إلى جارة أخرى، ليَرِدَها منها ما أرسلته إلى جارتها الأولى، وكأن الموضوع تدوير صحون لا أكثر.
وجبة الضيف
وبعيداً عن النوادر التي تُلطِّف مذاق الحياة، تبقى فكرة “السكبة” من أجمل العادات السورية، وأكثرها تعبيراً عن التراحم وعمق الوصال الإنساني المتجذرة في الإنسان السوري أينما حلّ، ورغم انحسارها في الأيام الأخيرة بسبب ضيق الحال الذي سببته الحرب، إلا أنها ما زالت حاضرة بكامل زخمها وألقها، إن لم يكن على أرض الواقع، ففي ذاكرة السوريين القريبة.
ولعل ما وسمته الحرب فيما يتعلق بالسكبة السورية، أنه بحكم النزوح الذي أُجْبِرَت عليه العائلات السورية بفعل الحرب، بات الجيران من محافظات مختلفة، فجارة من دير الزور، وأخرى من إدلب، وثالثة من حمص، ورابعة من حلب، وخامسة من الحسكة، إلى جانب الجارات من دمشق وريفها ودرعا وحماه والسويداء وغيرها، وهذا ما جعل للسكبة نكهة أكثر تنوعاً، وجعل الجارات يتعرفن على طبخات تشتهر بها المحافظات الأخرى، فبعد أن كانت السكبات محصورة بأكلات محددة ومعروفة من قبل الجيران القدامى فيما بينهم، باتت أكثر تنوعاً وأغنى بنكهاتها وأطباقها التي تميز كل محافظة عن أخرى.
ومما حصل مع الصديقة سلام أحمد، إحدى المتطوّعات في جمعية “ساعد الخيرية” بدمشق، وخصَّت به رصيف22، أنها أثناء سكب وجبات إفطار رمضان في أوعية خاصة مُعدَّة للتوزيع، وهو نشاط خيري اعتادت الجمعية إقامته كل رمضان أمام باب الجامع الأموي في المدينة القديمة، جاءها رجل ليأخذ بعض الوجبات، فقدمت له ثلاث بحسب عدد أفراد أسرته، واستغربت أنه بدأ يرغي ويزبد ويعاتب قائلاً: “أريد أربعة، اليوم عندي عزيمة، هل يُعقل أن تنقصني وجبة للضيف؟”.