الانتخابات الفرنسية… خيارات مرتبكة واحتمالات خطيرة .. واسيني الأعرج
الثقافة السياسية الفرنسية كانت دوماً سباقة بنخبها المنتجة، وبجهودها الفكرية، في تطوير الممارسة السياسية والثقافية والحضارية. من يرجع إلى التاريخ أدبياتها التي تشكل اليوم مجمل جهودها عبر التاريخ، سيدرك كم أن هذه الخيارات الكبيرة شكلت لبنة حضارية مهمة، وغيرت وجه البشرية إيجاباً بشكل لافت. الشهادات المستمرة عالمياً حتى اليوم، دستورها وضوابطه في تنظيم تسيير الدولة، قوانين نابليون التي ما تزال حتى اليوم تحكم الكثير من البلدان، وأنوار فولتير وفلاسفتها الكبار الذين ظلت فرنسا والعالم الحر، واجهتهم الثقافية الأساسية.
لكن فجأة تتأخر فرنسا في ظل أوروبا ولم تعد تملك زمام المبادرة أمام قوى أخرى، واعتلاء أمريكا مقود سفينة العالم. مع ما يحدث في زماننا الهش، نفهم جيداً لماذا رفض ديغول الهيمنة الأمريكية، وظل محافظاً على استقلالية البلاد في خياراتها الثقافية والسياسية وحتى العسكرية. وجدت فرنسا في عمق النموذج الأمريكي الذي لا تهمه في النهاية إلا مصلحته، وما عداها مجرد مناورات عامة، حقها في الحفاظ على مسافة الأمان. يجسد هذه الغطرسة والتخلف وضيق الأفق، اليوم، ترامب الذي جعل من الصوت العنصري دليله.
تبعية ساركوزي إلى النموذج الأمريكي خلال فترة بوش الابن الذي خرب كل التوازنات المحلية والدولية، قللت من قيمة الدور الفرنسي خصوصيته واستقلاليته. خطابه المعادي للمسلمين والعرب وللأجنبي بشكل عام، وأغلق على فرنسا في دائرة شديدة الضيق، أسقطه في الانتخابات التي كان يظن أن خطاب العداء سيقوده نحو الانتصار فيها. إذ لا يمكن الاستهانة بأكثر من أربعة ملايين مسلم، غير نشطين سياسياً وحتى ثقافياً، لكنهم عندما كانوا يسمعون خطاباً مريضاً ظل يستهدفهم بشكل معلن يومياً، ويحولهم إلى أعداء، بينما هم ضحية مجتمع أجبره ساركوزي على أن يسير بطريقين، طريق المواطن الباحث عن معاشه اليومي مثله مثل غيره، وطريق الضحية التي تلصق بها كل الأمراض من عنف وإرهاب وبطالة.
ماذا كان ينتظر ساركوزي من هؤلاء غير تحولهم طبيعياً إلى أعداء له في الانتخابات؟ لأول مرة رأيت في لاباستي، الفرنسيين من أصول دينية إسلامية ومسيحية، ويهودية، وعرب وأفارقة وصينيين، يحملون أعلام بلدانهم الأصلية فرحاً بفوز أولاند ليس حباً فيه ولا في رئيس حكومته إيمانويل فالس، الذي سرعان ما انتمى لخطاب لا يقل عداوة عن خطاب ساركوزي، في قضايا حساسة مثل نزع الجنسية الذي رفضه البرلمان في كل صيغه، ولكن انتقاماً ممن أهانهم الاشتراكي.
الخطاب نفسه الذي يتبناه كلياً مرشح يمين الوسط الجديد فرانسوا فيون يتطابق في برنامجه، في قضية الإسلام والأجانب، مع الجبهة الوطنية الفاشية. لا غرابة إذن في أن تكون مارين لوبين على رأس المرشحين في الدور الأول بحسب سبر الآراء. ربما أن إيجابية هذه الوضعية الوحيدة، هي أنها دفعت بالطبقة السياسية إلى التفكير جدياً في مسار سياسي آخر، أكثر عقلانية وبراغماتية، يخرج من الحسابات القديمة والثنائيات الحزبية الضيقة بين اشتراكيين ويمينيين، التي لم تكن لتترك للغاضبين من الحزبين من خيارات أخرى سوى الذهاب نحو خزان تطرف مارين لوبين.
فماكرون فتح هذه الفرصة لخيارات الغاضبين، لأنها أصبحت ضرورة بعد ترهل الحزبين الكبيرين وبعد خسران أية إمكانية للتقدم والتغيير. الظاهرة «الماكرونية» مهمة اليوم على أكثر من صعيد، فهي تفتح الباب واسعاً نحو التغيير الجدي. أصبح للمنتخب الفرنسي إمكانية جديدة أمام الخطابات المتطرفة من يسارها إلى يمينها. هناك اجتماعية واسعة تبحث عن هذا الخيار الوسط أمام زحف اليمين المغلق بتطرفه. فقد بينت الوقائع أن قراءة ماكرون كانت صحيحة إذ بدأت التحالفات تظهر بشكل واضح.
التحاق شخصية كبيرة مثل باريرو، من يمين الوسط، يبيّن أن المسألة أصبحت تترسّخ في الذهنية الفرنسية، للخروج من الثنائية التقليدية. وربما سيلتحق بالركب جون لوي بورلو، رئيس تجمع الديمقراطيين والمستقلين. هذا الكسر القوي، سيحرر حتماً الطبقة السياسية التقليدية ويخفف من نزيف الذهاب نحو الجبهة الوطنية المتطرفة احتجاجاً. صحيح أنها تحالفات هشة، ولكن تفرضها الضرورة، لأن اليمين المتطرف ينتظر للانقضاض على الدولة وفق برنامج فاشي شديد الخطورة. علماً بأن اليمين الجمهوري في جزئه الفيوني (فيون) واليمين المتطرف غارقان في الفضائح ويجران وراءهما قضايا فساد مالي ثقيلة، قد تعيقهم ليس فقط في الوصول إلى الإليزيه، ولكن إلى المتابعة القضائية التي تعني ببساطة الانهيار الكلي لمشروعيهما. الخطر الأكبر الذي صرح به وزير الزراعة قبل يومين، قد يأتي من فيون، إذ يمكن لحالة اليأس أن تقوده إلى ردة فعل انتقامية بالتوجه نحو اليمين المتطرف؟
إنه أمر غير مستبعد في ظل الأوضاع الخالية. وبدل التصويت الجمهوري، يذهب منتخبو فيون نحو اليمين المتطرف انتقاماً. وخيبة اليسار أيضاً قد تدفع بقطاعات واسعة من اليسار الهش، نحو اليمين المتطرف، انتقاماً من «خيانة» ماكرون. وبسبب الأنانيات، لم يعد اليسار الفرنسي قادراً على إيجاد الطريق الذي يقوده نحو مسارات انتخابية ديمقراطية. يصبح بذلك التصويت الجمهوري اليوم في دائرة الخطر.
ما حمى فرنسا في الثمانينيات هو هذا الالتزام المواطناتي، فانتخب اليساري على غريمه اليميني حفاظاً على الديمقراطية والدولة والجمهورية التي كانت مهددة من فاشية قروسطية، كانت على الأبواب. تجربة ماكرون يمكنها أن توقف مسار اليمين المتطرف في حالة إدراك الطبقة السياسية للمخاطر القريبة.
لمن سيصوت الأربعة ملايين بطال بعد يأسهم من اليسار واليمين؟
لمن سيصوت الأربعة ملايين مسلم الذين يحسون بأن الوعود اليمينية واليسارية لم تؤدّ إلا إلى مزيد من الانتظار؟
مخاطر نجاح اليمين المتطرف بسبب تصويت انتقامي غير مستبعدة بعد تآكل ثقافة التسامح الفرنسية والسياسة المتبعة مع الوطني من أصول غير أوروبية. هل تستطيع فرنسا اليوم أن تستعيد قوتها، وتقلل من مديونيتها الثقيلة، في السنوات المقبلة؟ للذهاب نحو تحريك آلة الإنتاج وربح المزيد من الأسواق العالمية، ولكن أيضاً المزيد من التفكير في المعضلات الثقافية والهوياتية، لا باختزالها، ولكن بفهمها كعنصر للوحدة والتعدد، في عالم مأزوم على شفير حروب مخفية لكنها تكبر في صمت وخوف سيكون وقودها الأوروبي هذه المرة، في ظل التحولات السياسية الأمريكية الجديدة في التخلي عن كل التزاماتها الأطلسية، والإنسانية، والانكفاء على الداخل؟
القدس العربي