كيف غسل الملح الفلسطيني بعض العار العربي .. واسيني الأعرج
للملح في المعتقد الشعبي أهمية كبرى، منها الثبات، والخير، والتمكن من تقاسم كل شيء مهما كان ضئيلاً. أن يقول لك شخص أكلنا ملح بعضنا، معناه الاشتراك بشكل حميمي في الأكل، وهذا علامة على الثقة، لأن من أكل ملحك لن يخونك. أنت تسجنه فيك بطيبتك وخيرك. مما يجعله قريباً منك، ويدافع عنك وعن عائلتك في غيابك. الملح بهذا المعنى دليل تآزر. ويمكن تطبيق هذا الفهم على الأسرى الفلسطينيين الذين ظلوا متآزرين أكثر من أربعين يوماً. لا شيء يسمح لهم بالحياة إلا الملح الذي يغذي الجسم، والماء تفاديًا للجفاف.
بعد أكثر من أربعين يوماً كانوا قد أصبحوا على حواف الموت والأسطورة أيضاً. على الرغم من المحاولات الإسرائيلية لكسر إضراب الكرامة، بخلق أفلام وصور تظهر فيها الأسرى وقد كسروا الإضراب بالأكل، إلا أن ذلك لم يكن لينطلي على الأسرى الذين أدركوا اللعبة مبكرًا وواصلوا إضراب الكرامة.
بعد أكثر من أربعين يوماً أدركت إسرائيل أن التصميم كان قوياً وأن الأسرى مصممون على الذهاب حتى النهاية نحو أهدافهم ومطالبهم. فاستجابت لأكثر من ثمانين في المائة من مطالبهم الإنسانية، فعلقوا الإضراب. والتعليق لا يعني الإيقاف إذ يمكن للإضراب أن يعود في أية دقيقة إذا ديست هذه الحقوق من الجهة الإسرائلية أو لم يستجب لها. إسرائيل خافت من الفضيحة الإنسانية. نعم خافت ليس بالمعنى العسكري، فهي من هذه الناحية متفوقة على العرب مجتمعين وبالخصوص بعد تدمير سوريا والعراق، وإغراق مصر في مشكلات الإرهاب، وشؤونها اليومية، لم تعد أية قوة تخيفها في المنطقة العربية.
إسرائيل خافت من الإعلام العالمي الذي مهما كان صمته وسكوته وحتى تواطؤه، إلا أنه كان سيضع إسرائيل في دائرة الدولة التي لا يُحترم فيها أي قانون إنساني حتى ولو وقعت عليه دولياً.
بهذا الموقف البسيط عملياً، والقوي رمزياً أعاد الأسرى قليلاً من الكرامة للعرب الذين خسروا كل شيء بما في ذلك ماء الوجه، بعد أن دخلوا في حروب بينية وأهلية دمرتهم، وتدمرهم بلا رحمة، وشردت الملايين وأعادتهم إلى بدائية قاتلة لم يتخيلها أي عاقل. كان الهدف في الثورات العربية، ضرب الديكتاتوريات، فبقيت هذه الأخيرة أو غيرت ألبستها العسكرية بأخرى مدنية، أو العكس حماية للأوطان من الاندثار، وكل ما حدث هو أن التدمير العربي العربي في العراق وسوريا واليمن وليبيا وصل أقاصيه، وأن الشعوب هي التي تم ترحيلها من أراضيها وبيوتها.
كل ما كان يشكل القوة العربية الضاربة انتهي لأسباب عديدة يقف على رأسها سببان داخليان كبيران: الدكتاتوريات العربية لم تحضر لخروجها من دائرة الحكم حماية لأوطان عاثت فيها فساداً زمناً طويلاً، بل يبدو أنها لم تفكر في المغادرة أصلاً حتى بعد تلقيها ضربات موجعة. السبب الثاني هو أن الثورات العربية رهنت جهودها وبقاءها أيضاً بقوى عربية ودولية لم يكن رهانها الثورة بقدر ما هي معارك تتخفى من ورائها مصالح اقتصادية وإيديولوجية، تنفجر اليوم في وضح النهار.
لم تستطع الثورات ان تفرض خطها ومساراتها وظلت مبتورة من قيادات حقيقية غير تبعية تقودها إلى الانتصار. المشهد الحياتي والسياسي اليوم عربيًا، لا يورث الا البؤس والغضب واليأس والخيبة.
رئيس أمريكي على حافة الإقالة الدستورية يأتي إلى البلاد العربية والاسلامية ويشتم قادتها الذين لم يرفعوا الإصبع الصغير ومطالبته بالاعتذار أولاً للذين شردهم في المطارات ومسالك الحدود البرية وحتى في بيوتهم بحجة أنهم مسلمون. الغرابة والتناقض في هذا الرجل غير الطبيعي هي كيف يصبح المال العربي مرغوباً، وثقافتهم ودينهم مرفوضين؟ ربما هذا ما يطلق عليه ترامب البرغماتية؟
ثانياً، هناك مشكل أخلاقي ومبدئي يضع العرب وجهاً لوجها أمام وجودهم الذي أصبح مهدداً وهم لا يدركونه. كان يمكنهم أن يضعوه أمام تطرفاته المشينة وشتائمه لشعوب ذنبها أنها تختلف عن يقينياته؟ ماذا لو لم يكن للعرب هذا المصدر المالي الطبيعي، نعمة ونقمة النفط؟ كانوا سيموتون في الخلاء دون أن ينتبه لمصائرهم أحد. مثلما هو الحال في الصومال وغيرها. وتُنسى حياتهم وحروبهم على الخرائط الدولية. يموتون قهراً وجوعاً وعطشاً، وما تبقى منهم تأكله الأمراض والحروب الصغيرة التي يعرف سادتها كيف يسعّرونها كلما اقتضت ذلك مصالحهم. خجل القادة العرب خوفاً من انزعاج اليانكي. صمتوا ولم يطرحوا عليه، ليس قضية فلسطين، فهذه المسألة خرجت من أيديهم ولم يعد لهم فيها أي دور يُذكر، على الرغم من مقترحاتهم حول فكرة الدولتين والاعتراف المتبادل، التي ما تزال حبراً على ورق، ولكن بالمقابل لم يتوانوا عن تجريم جزء من النضال الفلسطيني، حماس، مهما كان رأينا في ممارساتها وإيديولوجيتها. ووضعوها في صفوف الإرهاب.
يجب الحذر من الأحكام السهلة. داخل هذه الحركة لا يوجد فقط إخوان مسلمون «مخيفون»، يوجد أيضاً فلسطينيون مناضلون مخلصون لبلادهم، بعضهم استشهد ولم يجن شيئاً سوى محاولة تحرير وطنه. يمكننا أن نناقش عربياً هذه التنظيمات على الصعيد السياسي والعسكري، وخياراتها الايديولوجية وتبعياتها لدول وكيانات كثيرة، لكن لا يمكن استرضاء إسرائيل بهذه البساطة، برمي حماس في سلة القتلة الداعشيين، وكأن لا عمل لها إلا القتل والحرق والعدمية. وراء حماس وغيرها من التنظيمات السياسية قضية واحتلال.
اعتبار حماس حزباً إرهابياً يناسب إسرائيل، وأيضاً أمريكا التي تريد عربا يدخلون بيت الطاعة بلا أية ردة فعل مهما كانت صغيرة. لتُنهِ إسرائيل احتلالها لفلسطين والأراضى العربية، وستوقف هذه الأحزاب المسمات إرهابية، وتموت تلقائيا في النسيج المجتمعي، إذا لم تعبر عن هاجس تحرري في بلدانها. وكان يمكن للقادة العرب على الأقل الالتفات إلى قضية إنسانية، قضية الأسرى الذين كانوا يواجهون موتا أكيدا. ماذا كانوا سيخسرون لو فعلوا شيئا في هذا السياق ولو شكليا، حفاظا على ماء الوجه. الفلسطينيون حرروا أنفسهم بأنفسهم. بصبرهم ومائهم وملحهم. وربحوا معركتهم الأولى في ظل الخيبات العربية المتعاقبة. حرب أسرى الكرامة والإصرار على ضمان شروط دنيا للحياة. طبعاً سيخرج بعد أيام من يتحدث عن خيانات في الصف الفلسطيني وإجهاض تجربة الإضراب لإثارة الرأي العام العالمي. وسيفتي المفتون السياسيون بأنه كان على الفلسطينيين أن لا يوقفوا الإضراب لأن ما تحصلوا عليه لا قيمة له.
وستتحرك آلة الإعلام الطيعة بهذا الاتجاه دفاعاً عن الرؤى العربية الرسمية البائسة. تمّ تعليق إضراب الكرامة الشديد القسوة والأهمية رمزياً، بعد تضحيات كبيرة في عالم أصبح متصحراً، إرادة قوية لم يساندهم فيها أحد. وكان على الفلسطيني أن يتكل على نفسه وعلى الملح والماء، ولا ينتظر شيئاً من أحد. ومن العرب أقل. وظلوا في السجون الإسرائلية في الغموض الكلي عن أوضاعهم. يُرحّلون من مكان إلى مكان، تحدوهم رغبة واحدة: الدفاع عن الحق الأدنى للاستمرار في العيش. إلى اليوم لا أحد يعرف المآل النهائي للإضراب ما عدا التعليق، لكن هذا كان كافياً في ظل ظرفية التمزق والحروب العربية العربية، لغسل الذل العربي وجرح الخيبة المتفاقم بحفنة ملح وقليل من الماء. شكراً للماء والملح وما تبقى من رجال، في عصر بلا رجال.