ما أصعب عودة المياه إلى مجاريها! … محمد كريشان
“قد تعود المياه إلى مجاريها لكنها لن تعود أبدا مياها صالحة للشراب” بهذه الجملة اختصر أحد المواطنين القطريين طبيعة الأزمة التي عرفتها بلاده مع ثلاث دول خليجية بالتحديد هي السعودية والإمارات والبحرين.
الخلافات بين الدول الخليجية ليست جديدة إلا أنها لم تكن أبدا بهذه الحدة ولا بهذا الاتساع. ورغم وجود “مجلس التعاون الخليجي” منذ 1981 إلا أن ذلك لم يمنع من حدوث خلافات عديدة بين أعضائه، بعضها حدودي كتلك التي كانت بين السعودية وقطر، والسعودية وعمان، وكذلك بين قطر والبحرين وصلت إلى حد الاحتكام لمحكمة العدل الدولية، كما حصلت مماحكات ظرفية في قضايا محددة بين السعودية والإمارات أو بين قطر والبحرين أو بين الكويت وقطر أو بين بين هذه الأخيرة والسعودية لكنها سرعان ما طويت وعولجت بالتراضي، حتى أكبر الأزمات التي حصلت عام 2013، لكن ما حصل في الشهرين الماضيين مثّل لأبناء المنطقة صدمة غير مسبوقة بكل المقاييس.
قرارات هذه الدول الخليجية الثلاث ومعهم مصر ضد قطر لم تقف عند المقاطعة السياسية بل امتدت لأول مرة لحصار شامل زج بالمواطنين في ما لم يعهدوه من قبل أبدا. لم تغلق الحدود البرية فقط أو تلغى الرحلات الجوية بين هذه الدول وقطر ويغلق المجال الجوي في وجه شركة طيرانها، وإنما طال المواطنين مباشرة حيث طلب من كل القطريين المقيمين أو الزائرين لهذه الدول مغادرتها في أجل أقصاه أسبوعان والطلب من مواطني هذه الدول كذلك مغادرة قطر في نفس المهلة. لم ينتج عن هذا الإجراء الصادم فقدان المئات لوظائفهم فقط وإنما سبب أيضا حالة من الإرباك والفوضى بين المئات من الزيجات المشتركة بين هذه الدول والعائلات المتصاهرة وصلت حد مغادرة الأم القطرية المتزوجة من إماراتي دولة الإمارات مع منعها من اصطحاب إبنها الرضيع لأنه إماراتي يحظر عليه ان يكون في قطر!!
الحالات الإجتماعية الكثيرة التي تسببت فيها هذه الإجراءات القاسية بلغت زهاء الثلاثة آلاف حالة فقط مما سجل في قطر لوحدها، أما ما سببه ذلك لدى سعوديين وإماراتيين وبحرينيين فالله به أعلم. صحيح أن الخلافات السياسية واردة بين كل دول العالم، ولكن عندما يزج بالمواطنين في أتونها، فيشعر بها “في العظم”، يصبح أذاها أشد ومعالجتها أصعب… وهذا ما حدث في الأزمة الخليجية الأخيرة. تضرر الناس وتألموا نفسيا وأسريا ومعيشيا دون الخوض أكثر في ما سببه الحصار على قطر من منع فوري وحاسم لاستيراد حاجياتها الغذائية وغيرها من أشقائها من دول الجوار.
لقد كان القطريون مطمئنين إلى هذه العلاقة إلى درجة جعلتهم لا يرون حاجة في إقامة صناعة وطنية تلبي حاجياتهم الأساسية، مع أن ذلك لم يكن عسيرا أبدا على دولة مكنتها الوفرة المالية من بناء ملاعب كرة قدم مكيفة. لم ير القطريون ذلك معتقدين أن لا عيب في حاجتهم الماسة لإمدادات جيرانهم طالما أن الهدف المنشود هو التكامل بين اقتصادات هذه الدول وصولا ذات يوم إلى إتحاد بسوق موحدة بعملة واحدة.
لقد ضُربت الثقة في مقتل واستعادتها لن تكون سهلة أبدا. لم يكن هناك من تدخل عسكري لحسن الحظ ولكن ما حصل أحدث شرخا عميقا سيستغرق علاجه وقتا طويلا لأن ما حدث بالنسبة إلى القطريين لا يقل صدمة عما حدث للكويتيين إثر غزو العراق لبلادهم صيف 1990 وإن لم يكن بلا دماء ولله الحمد. السياسة تتغير ولكن مزاج الناس أمر مختلف تماما، فهو أعسر وأطول بكثير. وعلى ذكر تغير السياسة والسياسيين إليكم هذه القصة التي حصلت معي في يونيو/ حزيران عام 1999 :
دعيت لإجراء مقابلة تلفزيونية مع وزير الخارجية الإماراتي السابق راشد عبد الله النعيمي في أبو ظبي. تم تسجيل المقابلة وعدت بها إلى الدوحة للبث لاحقا. كان الوزير خلال اللقاء يدافع بضراوة عن السعودية ومجلس التعاون الخليجي في ما يتعلق بمواقف هؤلاء من الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة من إيران رغم كل محاولات المذيع لجره لانتقاد واحد أو جملة عتاب يتيمة. بعد الإعلان عن موعد بث هذه المقابلة تلقت المحطة اتصالا من الخارجية الإماراتية ترجوها فيها ألا تفعل بحجة أن الأوضاع تغيرت. رفض المدير آنذاك محمد جاسم العلي عدم بث المقابلة لكنه اقترح في المقابل، حلا وسطا، وذلك بتعويض المقابلة المسجلة بأخرى مباشرة على الهواء يصحح فيها الوزير ما يشاء.. وهذا ما كان. ومنذ اللحظة الأولى، ذهلت للتغير الذي حصل فقد شرع ذات الوزير في انتقاد السعودية ومجلس التعاون بشراسة فما كان من المذيع إلا أن تحول هنا للدفاع عنهما، استنادا لنفس الحجج التي كان سمعها من الوزير نفسه قبل يومين. انقلبت الأدوار والمواقف تماما !! وما زالت المحطة تحتفظ إلى اليوم بنسختي مقابلة متناقضتين لنفس المسؤول لا تفصل بينهما سوى بضعة أيام لا غير.
٭ كاتب وإعلامي تونسي