“لا أطلب المستحيل، لكن أريد تعليم أولادي”؛ تقول سلمى، وهو اسم مستعار لسيدة لبنانية مطلّقة منذ سنتين، وتعيل أولادها الأربعة وحدها.

تحصل سلمى على مبلغ 450 ألف ليرة كنفقة، أي ما يعادل 22 دولاراً، حسب سعر السوق الموازية. يحتاج أولاد سلمى إلى عشرة أضعاف هذا المبلغ، لشراء كتبهم المدرسية. ومنذ بداية العام الدراسي الحالي، ترافقهم إلى المدرسة سيراً على الأقدام، إذ مع غلاء أسعار المحروقات، وارتفاع كلفة باص المدرسة لتبلغ مليون ليرة للولد الواحد، لم يكن أمامها خيار سوى أن يسيروا مدة عشرين دقيقة يومياً، للوصول إلى مدرستهم.

المبلغ الذي تحصل عليه، بالكاد يغطّي كلفة اشتراك المولد، كما تقول، “وعلى الأقل بدّي مليون ليرة بالشهر، لكل ولد، بين أكل وشرب”، تضيف.

ارتفاع السلع بشكل “جنوني”

حسب مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، فإن أسعار عشر سلع غذائية أساسية ارتفعت بنسبة تفوق 700%، خلال السنتين الماضيتَين، أي منذ طلاق سلمى، وحتى تموز/ يوليو الماضي.

وحسب المرصد، فإن عائلة سلمى المكوّنة من خمسة أشخاص، كانت تحتاج إلى ثلاثة ملايين وخمسمئة ألف ليرة لتأمين المواد الغذائية حينها. لكن الأسعار ترتفع بشكل مستمر، مع ارتفاع أسعار المحروقات، ورفع الدعم التدريجي الذي كانت تخصصه الدولة اللبنانية، عن المواد الأساسية.

أما هناء (اسم مستعار)، فتحمد الله على أنها غير مضطرة إلى دفع بدل إيجار منزل، إذ تسكن وأطفالها الخمسة مع شقيقتها، في منزل والدهن المتوفى.

لم تصل وطليقها إلى اتفاق حول النفقة، فحكمت المحكمة الدرزية بمبلغ مئتي ألف ليرة لكل ولدٍ شهرياً، مع استثنائها هي من الحصول على نفقة.

وجاء الحكم على أساس أن سعر الدولار في السوق الموازية حينها، كان يساوي ثلاثة آلاف ليرة. وبما أنها حصلت على حضانة أربعة أطفال، فإنها تحصل على نفقة تساوي 800 ألف ليرة، أي ما كان يساوي تقريباً 260 دولاراً وقت صدور الحكم. أما اليوم، فتساوي نفقة الأطفال الأربعة 40 دولاراً، أي أقل من نصف سعر “الوجاق” (مدفأة الحطب)، التي تريد شراءها قبل دخول فصل الشتاء. تقول هناء: “أكتر شي منتغطى كل واحد بأربعة حرامات، أوفر ما أشتري وجاق”.

يتكفّل طليق هناء بتكاليف تعليم الطفلَين الأصغر سناً في المدرسة الرسمية. وفيما تلازم الأخت الكبرى (14 سنة) المنزل مع والدتها، يعمل الصبيّان الأكبر سناً، 13 و12 سنة، في محلات والدهما، مقابل حصولهما على المبلغ المفترض أن يكون النفقة.

تقول هناء: “طليقي بيدفع النفقة بالتقسيط، 40 ألفاً في النهار. المبلغ ما بكفي خبز، صارت الربطة بسبعة آلاف ليرة، ونحنا بدنا ثلاث ربطات في النهار”، أي نصف المصروف اليومي الذي يرسله الطليق.

وتضيف أنها لم تعد تشتري اللحم مثلاً، والذي وصل سعر الكيلو الواحد منه، إلى 190 ألف ليرة، وتكتفي بشراء الضروري، “وعالقد”، من الخضار، والدجاج الأرخص سعراً. “إذا ولد طلب منّي لوح شوكولا، ما معي أدفع حقه”، تقول السيدة التي تتّكل على أختها العاملة، لتغطية جزء كبير من مصروف المنزل.

القانون الكارثة

“بعرف كذا مرا (امرأة)، صار معها هالشي، وهيدي كارثة”، تصف سلمى معاناتها، ومعاناة غيرها من النساء، من عدم إقرار المحاكم المدنية والروحية أحكاماً تنصف النساء، وأطفالهن.

تتّفق المحاكم الدينية المسيحية والإسلامية التي يعود لها البت في أمور الزواج، والطلاق، في لبنان، على أن النفقة تشمل المأكل، والطبابة، والإقامة، وكل ما يلزم لتعيش الزوجة حياةً لائقة، إلا أن الواقع يبدو مختلفاً.

اتّفقت سلمى مع والدة زوجها، ومحاميه، على أن يدفع لها 300 دولار كنفقة زوجة، على أن تتكفّل والدته بمبلغ 500 دولار كنفقة أطفال، إلا أن غلطة سلمى كما تقول، أنها وثّقت النفقة المترتبة على طليقها فحسب، في المحكمة الروحية لطائفة الروم الأرثوذوكس التي يتبعان لها.

تخلّف طليق سلمى عن دفع النفقة، كما والدته، مدة عامَين. وعلى الرغم من مراجعتها دائرة التنفيذ، إلا أن زوجها استطاع التهرّب، بدفع خمسين دولاراً للدركي (الشرطي) المكلّف إبلاغه بالشكوى.

وتقول إن أحد أصدقاء طليقها حاول التواصل معه، بعد أن انتقل مع زوجته الجديدة إلى الشمال، وأبلغه بأنه “زبّط”، أي رشا، المخفر، حتى لا يتم استدعاؤه. وعند اضطرار طليقها إلى الانتقال إلى بيروت مجدداً، وليضمن حرية تنقّله، استفاد من تدهور قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، فدفع المبلغ المتراكم في شهر حزيران/ يونيو الماضي، على سعر “الصرف الرسمي” المحدد من قبل مصرف لبنان، أي 1507 ليرات لبنانية مقابل الدولار الواحد.

تقول المحامية في الاستئناف، فرح الحسيني، إن نفقة الزوجة والأطفال تُعدّ ديناً ممتازاً، وعليه، في حال تخلّف الزوج عن الدفع، تتم مراجعة دوائر التنفيذ المدنية، لاستصدار قرار بالحبس، إلا أنه في حالات كثيرة، يدفع الطليق النفقة المقررة أساساً بالدولار، على أساس سعر “الصرف الرسمي”، مدعوماً بقانون النقد والتسليف الذي ينص على “القوة الإبرائية” لليرة اللبنانية.

وترى الحسيني أن هذا القانون “ينسف مبدأ حرية التعاقد بين الطرفين”.

الحلول المتاحة

تقدّمت سلمى بطلبٍ لتعديل النفقة في المحكمة الروحية، مع إضافة نفقة الأطفال إلى الاتّفاق. وفيما تنتظر استكمال ملفها، لتبتّ المحكمة فيه، تخشى من اضطرارها إلى العودة مجدداً إلى المخافر، في حال امتناع طليقها عن دفع المبلغ الجديد، لا سيما إذا كان أعلى مما يدفعه الآن.

تقول سلمى إن وضع زوجها المادي جيد جداً، وهو قادر على دفع ما يترتب عليه كله، “بس ما بدّو يدفع، ومن قبل ما يطلّقني، ما كان يصرف على البيت”.

أما هناء، فلم يكن أمامها خيار إلا القبول بقرار المحكمة، في ما يتعلق بنفقة الأطفال، وتحضر الآن لتقديم طلب جديد إلى المحكمة الدرزية، لرفع مبلغ النفقة، بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار “اللي صارت نار”، حسب وصفها.

وتضيف: “لما تحددت النفقة كان الدولار بثلاثة آلاف، واليوم بعشرين ألفاً”. هذه ليست معركتها الوحيدة أمام القضاء الروحي، إذ تقدمت بطلب استئناف لقرار المحكمة في ما يتعلق بمؤخّرها المحدد في عقد الزواج بخمسة وثلاثين ليرةً ذهبية. “المحكمة قررت تقدير سعر الذهب بالدولار، لكن بيندفع المبلغ بالليرة اللبنانية، على أساس سعر الصرف الرسمي. يعني بيطلع لي بحدود سبعة ملايين ليرة فقط”، تشرح هناء.

تخشى فرح الحسيني من “تفريغ اتّفاقات النفقة وأحكامها، من مضمونها، في حال تعديل المبلغ، أو القبول بدفعها على سعر الصرف الرسمي”، وتشير إلى أنه في حال لم يتّفق الطرفان على مبلغ النفقة، فإن الكلمة الفصل تكون للمحكمة الروحية، سواء عند الطوائف الإسلامية أو المسيحية. وغالباً ما تقرّ هذه المحاكم مبالغ متدنّية، إذ لا يوجد حد أعلى، أو أدنى، تُحدَّد على أساسه النفقة.

المشكلة الآن، حسب الحسيني، تكمن في تحديد سعر الصرف الرسمي بـ1507 ليرات لبنانية للدولار الواحد، في حين أن سعره في السوق الموازية تخطى العشرين ألف ليرة: “مع رفع الدعم عن البنزين، وغلاء المواد الغذائية، وأقساط المدارس التي باتت كلها تسعّر على سعر الدولار في السوق الموازية، من غير العادل أن يبقى تحديد النفقة على أساس 1507”.

وترى المحامية اللبنانية أن “المطلوب اليوم، هو حل اقتصادي. فإذا عُدِّلت المعاشات مثلاً، فذلك سينعكس على قدرة الطليق على دفع نفقة عادلة لطليقته”، مضيفة أنه في حالات عدة، لا بد من مراعاة الوضع الاقتصادي للطليق من جهة، وارتفاع الأسعار من جهة أخرى: “مثلاً، العسكري الذي لا يتعدّى راتبه المليونَي ليرة، لا يمكن إلزامه بنفقة زوجة وأطفال تتخطى راتبه”.

تتّفق هناء وسلمى على عدم ثقتهن بإنصاف القضاء لهن. فتقول هناء: “كله ظلم بظلم. المرأة دايماً مظلومة، ومأكول حقها”، أما سلمى فترى أنه “ليس هناك قانون حقيقي يجبر الرجل على القيام بواجباته”، وخير مثال على ذلك، معاناتها هي، والعديد من صديقاتها، مما يتعلق بنفقتهنّ، ونفقة أولادهن.

تضاف معركة تعديل النفقة، وإلزام الزوج بالدفع بالدولار، أو ما يساويه في السوق الموازية، إلى معارك النساء أمام المحاكم الروحية والدينية.

ويبقى قرار رئيس دائرة تنفيذ النبطية، القاضي أحمد مزهر، علامةً فارقةً في هذا الملف، إذ أصدر في تشرين الأول/ أكتوبر عام 2020، قراراً يقضي بردّ اعتراضٍ تقدّم به مطلِّقٌ، لتدوين صحة إيفائه دينه، أي نفقة ابنته، لطليقته، بالليرة اللبنانية، حسب سعر الصرف 1517 ليرةً لبنانية مقابل الدولار الأمريكي الواحد (السعر حسب ما جاء في نص قرار القاضي مزهر).

فبعد رفض الطليقة تسلّم المبلغ الذي أودعه طليقها بالليرة اللبنانية، جاء قرار القاضي مزهر ليلزم الطليق بدفع النفقة بالدولار، والتي كانت المحكمة الجعفرية قد حددتها بخمسمئة دولار، إلا أن محكمة الاستئناف أوقفت تنفيذ قرار القاضي مزهر.

 

 

 

سحر البشير

*هذا الموضوع تم إنتاجه بدعم من برنامج النساء في الأخبار، التابع للمنظمة العالمية للصحف وناشري الأنباء “وان-ايفرا”.