الجولاني صنيعة الموساد! … راشد عيسى
إنه أمر نادر الحدوث في تاريخ الطغاة، ألّا يجد الديكتاتور من يدافع عنه، ولا حتى نظرياً، حتى هتلر ستجد اليوم من يسوّغ أفعاله، زوراً وبهتاناً بالطبع، هذا ما حظي به صدام حسين، “حامي البوابة الشرقية”، و”القائد الضرورة”، ومعمر القذافي “ملك ملوك أفريقيا”، و”قائد الثورة الأفريقية”، وصولاً إلى أنور السادات “الرئيس المؤمن”، و”بطل الحرب والسلام”.
أما الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، فلن تجد، غداة هروبه، أحداً يأسف على رحيله، متذرّعين بأن هربه خلسة، من دون أن يتوجّه بكلمة لمناصريه، كان سبباً في انعدام الأسف. لقد خلعه أعزّ وأقرب أصحابه على الفور، وأسقط من أيديهم، خصوصاً مع انفتاح السجون على صور مفزعة للتاريخ، لن يجدوا ما يدافعون به، عن الرجل الذي خيّب أملهم بأي نوع من الدفاع والصمود.
لكن في العمق سيجد مناصروه، والمولّهون بأمثاله ثغرة هائلة يدلفون منها، من دون أن يبدو عليهم، هكذا يتصوّرون على الأقل، أنهم يناصرون المجرم السوري الأخطر.
في إمكانك أن تبدأ الحديث هكذا: “بشار الأسد سقط، هو الآن في موسكو، انتهينا من ذلك”، ثم اجْتَرِحْ ما شئت من نظريات ستؤدي إلى طاحون واحد: بشار الأسد ضرورة تاريخية.
بالمصادفة ذهبت إلى صفحة الممثل مصطفى الخاني، ربما في سياق التساؤل كيف “كوّعَ” الفنان السوري أسوةً بزملائه “المكوّعين” (وهذا مصطلح سوري محض نشأ بعد هروب بشار، واندلاع موجة هائلة من التخلي عنه عند أقرب المقربين، بل ورَفْعهم على الفور لعلم الثورة السورية احتفالاً بالمناسبة)، فوجدتُ “النمس” (ومعروف أنه صديق لماهر الأسد، حسب صور نشرها معه على صفحاته في مواقع التواصل الاجتماعي) ثابتاً لا يبرح مكانه، ولفتني أنه شارك على صفحته في “فيسبوك” مقابلة من قناة “الغد” مع مراسلها الفلسطيني أحمد البديري. مقابلة نموذجية في الدفاع عن بشار الأسد من باب قضيتنا النبيلة، فلسطين، ومِن أسفٍ أن تُستخدم أيضاً وأيضاً في الدفاع عن طاغية أبله، بكلام تلفيقي، لا يخلو من التزوير.
يقوم حوار هذا المتشدّق الدائم والمشهود له بالدفاع عن الطغاة على فكرة أن “المعارضة السورية منعت الجيش السوري من الدفاع عن سوريا أمام إسرائيل“، وأن سوريا بسبب ذلك “أصبحت مكشوفة”.
سيبدأ أولاً بتضخيم دور الجيش وتاريخه: “الجيش العربي السوري أحد مقدرات الدولة السورية، عمره 79 عاماً، هذا الجيش الآن يباد عن بكرة أبيه، من قبل إسرائيل، كل المطارات العسكرية تم تدميرها بشكل كامل. سوريا تتعرّض إلى أكبر هجوم من أسراب الطائرات الإسرائيلية الذي لم يكن في الشرق الأوسط لا في عام 1967 ولا في عام 1973”.
وهنا يأتي البديري على النقطة المفصلية في كل حواره، التي جاء من أجلها على ما يبدو: “ببساطة لأن الطائرات تحلّق فوق سوريا، ولا يوجد هنا رصاصة واحدة تطلق عليها من قبل الدفاعات الجوية”. لماذا؟ “بالطبع” لأن “المعارضة السورية عزلت الجميع، وبالتالي أخذت قراراً غير مباشر عملياً أن لا يقوم الجيش السوري بالدفاع عن الأرض السورية”.
يعرف البديري هنا نقطة الضعف في نظريته، فيردّ سلفاً: “لا نتحدث عن الدفاع عن الأسد، خلاص، الأسد موجود في روسيا”. ويتابع: “هذه الدبابات الإسرائيلية إذا أرادت أن تدخل إلى دمشق سوف تدخل، لأنه لا يوجد جيش يستطيع أن يدافع عن دمشق”.
ثم يضيف البديري إلى نظريته عناصر “أكثر إحكاماً”: “ما الذي يجري في حواري دمشق؟ هنالك عمليات سرقة لوثائق سرية داخل مقرات عسكرية في دمشق، هذه الوثائق لا تتعلق بالمعتقلين في صيدنايا (إذاً فقد سمع البديري عن سجن صيدنايا!)، تتعلق بأماكن استخباراتية، بكل المعلومات التي يمكن أن تتخيلها لأي جيش من الجيوش، التي هي أهم لمستقبل سوريا من كل هذا الذي يجري. لأن إسرائيل دمرت القدرة الصاروخية والآن تدمر القدرة الاستخبارية”.
حاشا لله أن يدافع المرؤ عن أي اعتداء إسرائيلي على سوريا، وواضح أن تل أبيب تنهج سلوك الضباع، إذ لا تدّخر فرصة ولا وسيلة في الاستحواذ على مزيد من الأرض والضم وتدمير البنى التحتية حتى غير العسكرية، طمعاً في إعادة سوريا، كما لبنان وفلسطين، إلى ما دون الصفر. لكن توظيف الاعتداءات الإسرائيلية من قبل البديري وأشباهه لا يخفى، هل حقاً “الجيش العربي السوري” كان يشكّل رادعاً؟
إن أحد أبرز أسباب سقوط بشار، واُنظر ما تُجمِع عليه أهم مراكز الأبحاث الغربية والإسرائيلية، فسادُ الجيش، من جهة هناك الضباط الفاسدون المرتشون الذي “فوّجوا” عناصرهم مقابل مبالغ مالية (من سيبقى ليقاتل إذاً!)، ومن جهة أخرى بات الجيش كلّه، لا الفرقة الرابعة وحسب، ملوّثاً بالكبتاغون، تصنيعاً وتجارة. قل لي، بالله عليك، ماذا فعلت مقدرات “الجيش العربي السوري” للسوريين؟ صواريخ السكود استخدمت فقط تجاه المنتفضين ضد النظام منذ العام 2011 في إدلب وريف حلب، السلاح الكيميائي استخدم ضد المدنيين في مجازر معروفة وموثقة في غوطة دمشق الشرقية وفي خان شيخون شمالاً، السلاح الوحيد الذي أشهره هذا الجيش على مرّ عقد كامل من الانتهاكات الإسرائيلية هو: “نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين”، وقبل ذلك صمت مديد عميم منذ العام 1973.
ليس البديري وحده في هذه النظرية، فالممانعون كلهم على قلب واحد، هذه غدي فرنسيس: “إسرائيل دمرت قدرات الدولة السورية (في عهد الجولاني)، لكن ما أعرفه أيضاً أن هذه القدرات لم تكن تستخدم ضد إسرائيل، فما زعلت”. ولا تعترض حين تقول لها محاورتها في مقابلة متلفزة: “يقال إن الجولاني صنيعة الموساد”.
وهذا بيار أبي صعب، أحد أبرز أصوات التيار الممانع، والذي يمثل ما يشبه رئيس “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الخاصة بهذا التيار، يقول ساخراً: “كنت واعداً نفسي أن ثوار الناتو بقيادة الجولاني سيحوّلون سوريا إلى قاعدة عسكرية عظمى ضد إسرائيل”.
المراسل التلفزيوني الفلسطيني أحمد البديري يبدو متناغماً مع شق من فلسطينيي الداخل في نظريته تلك، انظر بيان “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” حول الحدث السوري: “التطورات الخطيرة في سوريا تؤكد حجم المؤامرة الدولية التي تستهدف سوريا الوطن، حيث باتت مكشوفة للعلن، وبالذات التعاون والتنسيق التركي الإسرائيلي الأمريكي”.
كلام لم يقله فلسطينيو الداخل ولا البديري وفرنسيس وأبي صعب لبشار الأسد طوال السنين الفائتة، يقال الآن في وجه جماعة لم تأخذ مكانها في الحكم بعد، بعد أقل من أسبوعين فقط على فرار المخلوع السوري.
نظرية ليس من شأنها فقط الإساءة لحق السوريين في بلد حرّ كريم، إنها أكبر إساءة للحق العربي بمواجهة إسرائيل.
* كاتب من أسرة “القدس العربي”