
الإعلام السوري و”مجتمع الدال”… لا نستحق هذه الإهانة! … راشد عيسى
خبر تعيين عميد لكلية إعلام في عاصمة ما لا يفترض، عادة، أن يستحق أيّ اهتمام، أو ضجيج، كالذي حدث مع تعيين الدكتور خالد فواز زعرور، عميداً لكلية الإعلام في جامعة دمشق، لكن هنا، الأعين مفتوحة على وسعها على كل تفصيل، بعد سقوط المخلوع بشار الأسد، والأهم هو أن هناك من نبش للأكاديمي السوري تصريحات متلفزة كان يعرف أنها لا بد ستثير استياء كبيراً، أو ضجة واسعة، على الأقل.
في الفيديو، ويبدو أنه تصوير لمحاضرة لزعروز على وسائل التواصل الاجتماعي، تتمحور حول “أخلاقيات الظهور في الوسائل الإعلامية”، ينتقد عميد كلية الإعلام الجديد أن يقوم الناس ببث صور عائلية على وسائل التواصل الاجتماعي، باعتبارها مشاركة للحظات يومية، معتبراً أن ذلك يتنافى مع الأخلاق والقيم، وأن ذلك يندرج تحت ما أسماه “مجتمع الدياثة”، بل يروح يجترح اختصاراً له بـ “مجتمع الدال”، مستلهماً من تسميات أخرى كـ “مجتمع الميم”.
يوضح زعرور بأن “مجتمع الدياثة” منافٍ لمجتمع الغيرة، وأن الدياثة شيء فطروي، وينفي أن يكون محاربوه متطرفين دينياً.
والدياثة في المعاجم هي ذهاب الغيرة، وحسب أحد المشايخ فإن “الديوث هو من يرضى الفاحشة في أهله”، ولعلها من أفظع الشتائم التي توجه لإنسان في الحياة المعاصرة.
في محاضرة أخرى عن “العادات الغريية في الإعلاميات الدخيلة” يخلط الأكاديمي السوري، عن عمد، كما يقول هو نفسه بين “الغريبة” و”الغربية”، متحدثاً عن الخصوصية، وتحديداً خصوصية العائلة، التي هي قاسم مشترك بين المجتمعات العربية، ولا يريد أن تنكسر خصوصيتها في وسائل الإعلام، وجعل تفاصيلها مباحة للجميع.
حيث الدراما ومواقع التواصل الاجتماعي، كسرت، حسبه، خصوصية العائلة، بجعل هذا الداخل المنزلي الحميم معلناً للجميع بصور وفيديوهات منزلية، بلباس المنزل، من داخل الغرف، أثناء الأكل والشرب، ومختلف تفاصيل الحياة اليومية.
في تصريحات لاحقة على الضجة يؤكد زعرور أن: “ما جاء في الفيديو هو جزء من آرائي الشخصية التي أؤمن بها، وأحترم كل من يختلف معي فيها. كما أن جزءاً منه كان طرحاً علمياً يهدف إلى وضع أسس صحيحة لإنشاء محتوى رقمي مهني وأخلاقي”.
مضيفاً، لموقع إعلامي، أنه “يجب التمييز بين الرأي الشخصي والرأي العلمي الرسمي، حيث إن آرائي الشخصية لا تعكس بالضرورة رؤيتي الأكاديمية كعميد لكلية الإعلام”. وأن منصبه الأكاديمي يفرض عليه الفصل بين آرائه الشخصية والتوجهات العلمية للكلية.
إذن لا لبس في كلام عميد كلية الإعلام، فالأمر لا يتعلق بإساءة استخدام الصورة، أو حقوق الملكية الفكرية، وانتهاك الآخرين لخصوصيتنا، واضح أنه يرى في أي ظهور لعائلة، زوجة، أخت، صورة منزلية.. “دياثة”، حتى لو أن الشخص نفسه، أو العائلة ذاتها، قامت، بمناسبة، أو غير مناسبة، ببث صورة أو فيديو، أو فعالية شخصية.
ولو توقف الأمر عند اعتبار كل ذلك انتهاكاً، أو سوء استعمال للميديا الاجتماعية، لأمكن النقاش، وتقبّله على أنه وجهة نظر وكفى، لكن زعرور يقرر بشكل نهائي أن كل ذلك ما هو إلا جزء من مجتمع الدال.
وكم كان مفيداً لو أن محاضرات زعرور جاءت لتحذر من استخدام الصور بغير حق من قبل آخرين، أحياناً قد يعاد استخدامها لأغراض تجارية أو دعائية، وربما أسوأ. كما يمكن أن تُستخدم في التلاعب أو إنشاء حسابات مزيفة. وجعل أفراد من العائلة عرضة للاستغلال والابتزاز.
يتجاهل زعرور أن تسمية “وسائل التواصل الاجتماعي” ما جاءت إلا من هذه الرغبة في خلق مجتمع مواز (أو ربما استكمالاً) للمجتمع الواقعي على شبكة الإنترنت، وما الفيسبوك (كتاب الوجوه) أو أنستغرام أساساً سوى هذه الرغبة، ولطالما حلم المرء أن تعود كل تلك الوسائط لما اخترعت من أجله أصلاً للتواصل، لما يشبه ألبوما ضخما لصور ويوميات ورحلات ونشاطات تستحق أن تعرض كلحظة نحب أن نشاركها مع الآخرين.
لكن لنترك كل ذلك جانباً الآن، ليست الحكاية هنا، فالجدل الذي أثاره العميد الإعلامي يذهب مباشرة إلى نقاش ما سيكون عليه الإعلام السوري مستقبلاً، فاختياره لهذا الموقع يعكس رغبة الإدارة السورية الجديدة بصورة معينة للإعلام على هذه الشاكلة، ويسلّم جيلاً جديداً من الإعلاميين السوريين لتصوّر لا يفهم من الإعلام شيئاً، إن لم نقل إنه يتصرف إزاءه باحتقار.
صحيح أن العميد زعرور يحاول أن يوحي بأنه يمكن أن يفصل بين آرائه الشخصية وما ستكون عليه مناهج التدريس، لكن من يصدق أن من ينظر إلى جزء كبير من العملية الإعلامية على أنه “دياثة” سيكتب أو يعلّم أو يدعو ويسوّق إلى ما يعززها!
يصعب الآن الافتراض ما ستكون عليه الحياة إن ذهبنا فوراً لحذف كل ما يتعلق بذكرياتنا وصورنا، أو ما سيكون عليه الإعلام الرسمي والبديل لو انصاع لكلام العميد، فهناك برامج وصفحات وأبواب لا حصر لها تنبني بالضبط على السير الذاتية والقصص الشخصية والصور ودواخل البيوت وأعمق الذكريات.
يصعب الافتراض لأن ذلك بات في حكم المستحيل، إلا إذا قررنا عن قصد الذهاب إلى خيار أفغانستان، إذ قد يبدأ الأمر من الحرمان من التعليم والرياضة والسينما، وصولاً إلى التدخل في العمارة، عندما أصدرت “طالبان” قراراً بحذف النوافذ من عمارة البيوت تطلّ على الفناء أو المطبخ أو البئر، أو أي مكان تتواجد فيه النساء!
تصريحات العميد زعرور أتاحت لنا أيضاً أن نطل على سيرته المهنية، تلك التي أهّلته لموقع العمادة، حيث الشاب الذي لم يبلغ الـ 35 من العمر، حاصل على دكتوراه تخصص إعلام إلكتروني من الجامعة اللبنانية، ودكتوراه في الدراسات الإسلامية من كلية الدعوة الجامعية في بيروت، وماجستير في الإعلام. ويعمل كمدرس في كلية الإعلام في جامعة الجنان في طرابلس وسواها من جامعات مغمورة.
سيرة مغمورة إذاً، لا تشير إلى تجربة لامعة، لا في صحف عريقة، ولا جامعات لها ترتيب كبير بين جامعات العالم، لا كتب، أو مقالات أو تحليلات وبرامج إعلامية.
هل ضاقت البلاد إلى هذا الحد!
؟
* كاتب من أسرة “القدس العربي”