لا بد وأن الكثيرين قد تساءلوا مرات ومرات: لماذا نجحت ثورات أوروبا الشرقية بسرعة البرق بأقل الخسائر البشرية والمادية، وانتقلت من معسكر إلى آخر بسلاسة وهدوء، بينما تعثرت الثورات العربية، أو عمليات التغيير في العالم العربي، لا بل كانت وبالاً على بلدانها وشعوبها؟

لا شك أنه سؤال وجيه جداً ويقتحم الأذهان في كل لحظة ونحن نرى الكوارث التي حلت على البلدان والشعوب العربية التي حاولت التغيير أو على الأقل إصلاح أنظمتها السياسية.
هل يا ترى، حققت ثورات أوروبا الشرقية أهدافها بيسر فقط لأن الشعوب هناك أكثر تقدماً وتطوراً وتحضراً من الشعوب العربية المبتلية بصراعات طائفية ومذهبية تاريخية وعصبيات قبلية وعشائرية، وليس لديها القدرة على التنظيم والقيادة، أم لأنه في الحالة الأوروبية الشرقية كانت هناك إرادة أمريكية وأوروبية بالدرجة الأولى لإنضاج الثورات وعمليات التحول السياسي بسرعة فائقة، لأن ذلك يخدم الغرب أولاً قبل الأوروبيين الشرقيين؟

دعونا ألا نستهين مطلقاً بالدور الذي لعبته أمريكا وأوروبا الغربية منذ عقود وعقود لدعم التحركات الشعبية في أوروبا الشرقية ضد الأنظمة الشيوعية، وإنضاج التغيير عندما حان الوقت. لا يمكن أن ننسى أبداً أن إذاعة «أوروبا الحرة» المدعومة غربياً كانت تحرض الأوروبيين الشرقيين على الثورة والتحرر من ربقة الأنظمة الدائرة في فلك الاتحاد السوفياتي منذ عشرات السنين، ولا ننسى أن كل وسائل الدعاية الغربية كانت تدعم كل حركات المعارضة في أوروبا الشرقية. والأهم من كل ذلك طبعاً أن شعوب أوروبا الشرقية من الناحية العقدية والثقافية هي شقيقة للشعوب الغربية، لكن الصراع بين الشرق والغرب أو ما يسمى الحرب الباردة فرقت تلك الشعوب، وخاصة في ألمانيا التي قسمتها اتفاقيات الحرب العالمية الثانية إلى ألمانيا غربية وأخرى شرقية. لكن في اللحظة التي سقطت فيها الحدود المصطنعة بين أوروبا الغربية والشرقية، عاد الألمان الشرقيون بسرعة البرق إلى أشقائهم في ألمانيا الغربية، وأصبحت ألمانيا موحدة بعد أن سقط حائط برلين سيئ الصيت. ثم انضمت كل دول أوروبا الشرقية فوراً إلى الاتحاد الأوروبي طبعاً بدعم أمريكي. باختصار، لولا الدعم الغربي والتصميم الأمريكي والأوروبي على إنضاج ثورات أوروبا الشرقية، لما نجحت تلك الثورات بتلك السهولة وتخلصت من أنظمتها الشيوعية القذرة. بعبارة أخرى، فإن تلك الثورات كانت هدفاً ومشروعاً غربياً قبل أن تكون ثورات شعبية. ولو لم تحتضنها أمريكا وأوروبا لكان وضعها مختلفاً تماماً.

 

ماذا قدم الغرب يا ترى بالمقابل لثورات الشعوب العربية؟ قد لا يرى البعض أن ما حصل في تونس وليبيا والجزائر وسوريا والسودان واليمن ولبنان ومصر والعراق على أنه ثورات، بل تثويرات افتعلها الغرب نفسه لتحقيق أهداف استراتيجية في المنطقة العربية، لكن حتى لو كان ذلك صحيحاً، فهو لا ينفي مطلقاً أن شعوب المنطقة كانت تنتظر على أحر من الجمر لتغيير أنظمتها وتحرر نفسها من نير الظلم والطغيان الذي كان أسوأ من الظلم الواقع على شعوب أوروبا الشرقية. لقد كانت كل الشعوب التي تحركت تعاني شتى صنوف القهر والفقر وكان لديها أسباب ربما أكثر من الأسباب التي حدت بشعوب أوروبا الشرقية للثورة. والسؤال هنا نكرره ثانية، لماذا نجحت ثورات الأوروبيين الشرقيين، ولم تنجح حركة تغيير عربية واحدة، فحتى في تونس التي ظن البعض أنها نجت من تبعات ما يسمى الربيع العربي الكارثية، عادت وانتكست وانضمت إلى الدول الفاشلة بعد أن عاد النظام القديم من النافذة بشكل أكثر بؤساً وقذارة في شخص طاغية جديد أعاد العباد والبلاد إلى المربع الأول. الجواب ليس صعباً أبداً، لأن الإرادة الغربية لمساعدة أوروبا الشرقية لم تتوفر في الحالة العربية، لا بل إن الغرب الذي ساعد الأوروبيين الشرقيين وأخذ بأيديهم إلى بر الأمان لعب دوراً معاكساً في الوضع العربي، بدليل أن الغرب ترك الطغاة والجنرالات العرب يفعلون الأفاعيل بشعوبهم، وغض الطرف عن جرائمهم، كما ساعد الثورات المضادة التي نجحت في كل البلدان العربية دون استثناء. وهذا يدعونا إلى التساؤل: هل يمكن لأي حركة تغيير في العالم أن تنجح من دون مباركة ضباع العالم أو قل القوى التي تتحكم بما يسمى النظام الدولي وتوزع الأدوار فيه؟

الجواب على ما يبدو طبعاً لا، لأن أمر التغيير ليس بيد الشعوب أبداً كما رأينا، مهما قدمت من تضحيات، ومهما تعرضت لمجازر وجرائم وعمليات تهجير لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث. ليس مسموحاً لأي شعب أن يتحرر من نظامه الطاغي، أو أن يشق طريقه ويقرر مصيره بيده، بل يجب أن تكون القوى المتحكمة بالعالم موافقة على التغيير، أو تريد تحقيقه، وإلا حاصرته وحولت حياته إلى جحيم حتى لو نجح في تغيير النظام، طالما أن ذلك لا يخدم المصلحة الغربية. وهذا كما هو واضح ليس متوفراً أبداً في الحالة العربية، لأن سادة العالم لا يريدون التغيير في المنطقة أصلاً، بدليل أنهم استبدلوا حتى الأنظمة التي ظن البعض أنها سقطت بجنرالات وأنظمة أكثر قذارة ووحشية ووساخة، فجعلوا الشعوب تقول: «رب يوم بكيت فيه، فلما صرت في غيره بكيت عليه». ولو راجعنا الأحداث التي وقعت في بلدان الثورات على مدى أكثر من عقد من الزمان لوجدنا أن حتى التغيرات التي حصلت والحكام الذين سقطوا لم يسقطوا بأيدي الشعوب، بل بأيدي القوى الكبرى، فهل كان القذافي ونظامه مثلاً ليسقط بفعل الثورة الشعبية الليبية فقط، أم بفعل طائرات حلف الناتو؟ كي لا نضحك على بعض، لولا الناتو لبقي القذافي حتى اليوم كما بقي غيره. وحتى الحكام الذين سقطوا ما كانوا ليسقطوا لو لم تعط القوى الكبرى الضوء الأخضر للجيوش العربية والدولة العميقة كي تتخلص من هذا الزعيم أو ذاك،

واستبداله بحاكم أسوأ. لهذا فإن ‏أي ثورة تندلع في هذا الزمان يجب أن تضع في الحسبان أنها لا تواجه فقط الطاغية المحلي مطلقاً، ولا نظامه، بل تواجه النظام الدولي الذي يحمي تلك الأنظمة الوظيفية ويستخدمها لمصالحه الخاصة. العالم اليوم ليس دولاً مستقلة ذات سيادة، بل أنظمة تقوم بأدوار يحددها لها النظام العالمي الحاكم، وهو الذي يقرر بقاءها أو رحيلها حسبما تقتضيه مصلحته الخاصة وليس مصلحة الشعوب، حتى لو وصلت إلى قاع الفقر والقهر والظلم.

 

والرسن واللجام دائماً ليسا بيد الأنظمة المحلية، بل بيد مشغليها في الخارج. لهذا فإن الشعوب، كما رأينا واجهت صعوبات هائلة في التغيير أو الإصلاح، لا بل دفعت أثماناً باهظة لمجرد أنها تجرأت على كلاب الصيد الذين يعملون بإمرة الصيادين في عواصم القرار الكبرى.

 

 

 

كاتب واعلامي سوري

falkasim@gmail.com