السوريون بين الهتافات والشعارات… “تعوا لنعد الأوباش، لينين وخالد بكداش”.. يوسف سامي مصري

 

 

 

 

 

يمتاز الشعب السوري بولعه الشديد في السياسة، ويُمثل الحديث السياسي بالنسبة له خبزاً يومياً. فالسوري بغضّ النظر عن درجة تحصيله العلمي أو مهنته أو سويته الثقافية والمعرفية، يجيد تفسير كل الظواهر السياسية المحلّية والإقليمية والعالمية. وهو لا يفهمها فقط، إنما له مواقف منها. فمثلاً، كان السوري يفهم ويشرح الحرب الباردة، بين الولايات المتحدة ومن خلفها أوروبا الغربية والاتحاد السوفياتي ومن خلفه أوروبا الشرقية، من دون أن يعرف مثلاً متى انضمت ليتوانيا أو لاتفيا إلى الاتحاد السوفياتي، أو بماذا يختلف الاتحاد السوفياتي عن الاتحاد الدولي للملاكمة أو التنس؟

 

يروي الرئيس الراحل حافظ الأسد لباتريك سيل في كتابه “الأسد والصراع على الشرق الأوسط”: “كان الفلاحون في قريتي يجتمعون حول مذياع ترانزستور صغير ويتابعون أخبار الحرب العالمية الثانية ويقيّمون أوضاعها”.

 

ومن المرويات المشهورة عن الرئيس السوري الراحل شكري القوتلي، في أثناء تسليمه السلطة في الإقليم الشمالي “سوريا” للرئيس جمال عبد الناصر، بعد توقيع ميثاق الوحدة السورية-المصرية: “تفضّل استلم 3 ملايين سياسي”، في إشارة من القوتلي إلى الشعب السوري. توضح عبارة القوتلي مدى تعلّق السوري بالسياسة.

 

من هنا، كان من الصعب التعامل مع هكذا شعب يمتهن السياسة، وكانت الشعارات والهتافات السياسية بمثابة المدخل للسيطرة عليه وتوجيهه نحو الوجهة التي تخدم هذا الزعيم أو ذاك القائد. وهي من صنع وترتيب جهات مختصّة بهذه المواضيع تُبدع في الشعارات والهتافات وتسوِّقها بين صفوف المؤيّدين.

 

ومن الهتافات المشهورة التي قالها السوريون للرئيس القوتلي في خمسينيات القرن الماضي: “شكري بيك لا تهتم منعبيلك بردى دم”، وبردى هو نهر شهير يخترق دمشق ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بها.

 

وتحتفظ ذاكرة الدمشقيين بحكاية البائع المتجوّل الذي كان ينادي على بضاعته من المشمش الحموي: “آخر أيامك يا حموي”، في إشارة منه إلى اقتراب موسم المشمش من نهايته، وهي طريقة لترغيب المواطن في الشراء. ولكن فهم عناصر المكتب الثاني سيئ السمعة عند السوريين، وهم جهاز المخابرات الذي كان يقوده العقيد عبد الحميد السراج، أن البائع يغمز من قناة الزعيم أديب الشيشكلي، فهو من حماه أيضاً وكان قد قام بانقلاب عسكري منذ فترة قصيرة، لينهالوا على البائع المسكين بالضرب و”يشحطوه” معهم.

يروي شيوعي عتيق من ريف جسر الشغور، لكاتب هذه الأسطر، التالي: “اندلعت مظاهرة للإخوان المسلمين في ستينيات القرن العشرين ضد الحزب الشيوعي السوري، وقد أذهله الشعار الذي بدأت الجموع تردده باستمرار: ‘تعوا لنعد الأوباش، لينين وخالد بكداش’، والأخير هو الأمين العام للحزب الشيوعي السوري آنذاك. ويلخّص هذا الشعار الموقف الأيديولوجي من الشيوعية في بلدها الأصلي، وفي بلد الوكيل الحصري السوري “بكداش”.

 

البعث والتأسيس لمرحلة الهتافات

A shopkeeper cleans a portrait of Syrian heir apparent Bashar al-Assad in Damascus 20 June 2000 as the ruling Baath party prepared to wind up its historic congress by consecrating Bashar as its secretary-general and choosing a new leadership body. Bashar takes over the title from his father, President Hafez al-Assad, who died 10 June after ruling Syria with an iron grip for 30 years. (Photo by RAMZI HAIDAR / AFP)

 

عندما وصل حزب البعث إلى السلطة، حضرت الهتافات التي تمجّده بكثرة في المظاهرات المؤيّدة له. ومن الهتافات الراسخة في أذهان من عايشوا تلك الفترة: “بعثية نزلت ع الشارع، الله أكبر ع اللي يمانع”.

يُلاحَظ من الشعارات السابقة أن ثمة خصماً ينبغي مواجهته من جهة، وثمة صديقاً أو محازباً يجب تحشيده وطلب مؤازرته. بقي الوضع على هذا الحال حتى ما بعد مرحلة استلام حافظ الأسد للسلطة، ليغيب الخصم في الشعارات والهتافات وتحلّ شعارات تمجيد الحزب والقائد الذي بدوره سيبتلع الحزب بالتدريج، لتبقى الشعارات والهتافات وكالةً حصريةً باسمه فقط. وتالياً أصبحت الشعارات والهتافات وسيلةً ليس لتمجيد “القائد التاريخي” وحسب، بل لتدجين المواطن وجعله برغياً في آلة النظام.

 

“أنكر ونكير”

 

يروي لي أحد أصدقائي عن والده المُسنّ، روايةً وقعت في إحدى قرى ريف جسر الشغور في محافظة إدلب، قبل وصول حافظ الأسد إلى الحكم، وكان والد صديقي بعثياً، لها دلالاتها على حضور الالتزام السياسي العقائدي والشعارات في حياة البعثيين في تلك الفترة. وكان مناصرو البعث في إدلب كتلةً وازنةً ولهم حضورهم الاجتماعي بين الأهالي. يروي صديقي: “توفيت امرأة مسنّة في القرية في الصباح، وبدأ أهل المتوفية يرتّبون أمور الدفن والجنازة، وعرفوا أنّ شيخ القرية غير موجود. وعندما تأخرت عودة الشيخ اقترح أحد الأشخاص أن يستعينوا بمعلم القرية وهو رجل بعثي ويحظى باحترام كل أهل القرية شأنه شأن كل المعلمين في تلك الفترة، الذين كانوا عموماً مسيّسين وينتمون في الغالب إما إلى البعث أو الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي السوري.

 

وافق معلم المدرسة على القيام بدور الشيخ في مراسم الدفن، ومنها تلقين المتوفاة، والتلقين عادة وتقليد إسلاميان متوارَثان، وهو أن يقوم “الشيخ” بترديد العبارات التالية على القبر بعد دفن الميت مباشرةً: “اعلم يا عبد/ أَمَة الله أن هذه آخر ساعة لكَ/ لكِ في الحياة الدنيا، وأول ساعة في الحياة الآخرة. سيأتي ملكان عادلان يجلسانك ويسألانك عن دينك ودنياك، فقل/ قولي لهم بلسان عربي فصيح: الله ربي ومحمد نبيي والقرآن كتابي والصلاة فريضتي والحج نُسُكي”… إلخ.

عند انتهاء الدفن، تقدّم المعلم/ الشيخ ليقوم بتلقين الميّتة وبدأ: اعلمي يا أمَة الله أن هذه آخر ساعة لكِ في الحياة الدنيا وأول ساعة في الحياة الآخرة. سيأتي ملكان عادلان (أنكر ونكير) يجلسانك ويسألانك عن دينك ودنياك، فقولي بلسان عربي فصيح… وعندما وصل إلى عبارة لسانٍ عربي فصيح، نظر الشيخ/ المعلم إلى الجموع واختلط عليه الأمر وطغت شخصية البعثي الحاضرة بقوّة لديه على شخصية الشيخ الطارئة، وخال نفسه على رأس تظاهرة مؤيّدة للبعث وهو منظر معتاد في حياة البعثيين في تلك الفترة، ليقول من جديد: “قولي لهم بلسان عربي فصيح… “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”. وهذه العبارة الأخيرة هي شعار حزب البعث الذي صاغه أحد مؤسسيه ميشيل عفلق، في أربعينيات القرن العشرين.

 

احتكار السلطات والشعارات

 

يدرك جميع السوريون أن حافظ الأسد قد حظي بأكبر عدد من الشعارات والهتافات من بين كل رؤساء سوريا السابقين، نظراً إلى طول فترة حكمه التي بلغت 30 عاماً.

 

وكانت هناك ماكينة إعلامية ضخمة تنتج الشعارات والهتافات المناسبة لكل حدَث ومرحلة في حياة السوريين عموماً. فبعد وصوله إلى الحكم، اعتاد السوريون على ترديد الهتاف التالي في المسيرات الضخمة تأييداً لـ”الرفيق القائد”: “بعثية نزلت ع الساحة لتحيّي أسد القرداحة”، والقرداحة هي بلدة الرئيس. وشاعت أهزوجة بين تلاميذ المرحلة الابتدائية كنا نرددها في أثناء انصرافنا إلى البيت بعد انتهاء الدوام: “تشرين أقبل… زاح الطغيان… رايتنا خفقت… فوق الجولان… تسلم يا قائد… للبعث الرائد… عروبة عروبة عروبة”.

 

وشهر تشرين الثاني/ نوفمبر هو الشهر الذي وصل فيه الأسد الأب إلى الحكم، وشهر تشرين الأول/ أكتوبر هو الشهر الذي قامت فيه حرب تشرين 1973. أما الجولان فمنطقة سورية تتبع لمحافظة القنيطرة في الجنوب وقد احتلته إسرائيل بعد حرب حزيران/ يونيو 1967.

 

بعد زيارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات للقدس، وتوقيعه اتفاقية السلام مع إسرائيل، الأمر الذي أغضب حافظ الأسد إلى الحد الأقصى، هتف السوريون في المسيرات المؤيّدة لسياسة الأخير مستنكرين ما قام به “الخائن” السادات: “دير الميّة ع الطاحون… حافظ أسد ما بيخون”.

 

كان وزير الإعلام السوري الأسبق أحمد إسكندر أحمد، هو من ابتدع نهج عبادة شخص الرئيس حافظ الأسد وفق باتريك سيل في كتابه آنف الذكر. وكان إسكندر في البداية من مناصري القيادة القومية أو المؤسِّسين الكبار عفلق والبيطار، قبل أن ينتقل إلى الصف الآخر.

 

وكانت كل محافظة تبتدع هتافات وأهزوجات من تراثها المحلّي، وهو ما أشعل حمأة المنافسة بين المحافظات لتظهر كل واحدة منها مدى ولائها وحبّها “للرفيق القائد”. ابتدع أهل حوران أهزوجةً خاصّةً بهم وكانوا يرددونها في المناسبات الوطنية والقوميّة، وحتى لا مانع من ترديدها في عيد الأم، أو في عيد الشجرة، وهي:

“من حوران هلّت البشاير لعيونك يا أسد يا ثاير

يا حافظ قود المسيرة والشعب بركان ثاير

حنّا هلك والعشيرة حبك ساكن بالضماير”.

 

المدينة موافِقة

 

هذا عن الهتافات التي كان يردّدها السوريون في المسيرات “الطوعية” التي يخرجون فيها “عفوياً”، لإعلان الولاء وتجديد البيعة “للقائد التاريخي”. فبالإضافة إلى الهتافات والأهازيج كان لدى السوري معجم كامل من الشعارات التي ضاقت بها الجدران وواجهات المحال والأبنية الحكومية وحتى السيارات العامة والخاصة، والتي كانت تمجّد “القائد المُلهَم” وتُظهر له الولاء والتقديس.

في ثمانينيات القرن العشرين، انتشرت الجرذان بكثافة غير مسبوقة في مدينة اللاذقية الساحلية، وقِيل وقتها إنها جاءت مع إحدى السفن التجارية التي رست في المرفأ. وفي الفترة نفسها، كان استفتاء “القائد”، وهي المناسبة الأهم في حياة السوريين على الإطلاق، وكان بمثابة “عرس ديمقراطي” يشترك فيه الشعب كله بمنظماته “الشعبية” وكل مؤسسات الدولة. انتشر “الرفاق” في اتحاد شبيبة الثورة يكتبون الشعارات التي تُظهر الدعم “للرفيق القائد” على كل الجدران في المدينة، حتى بالكاد يمكنك رؤية جدار بلا صورة أو شعار.

 

وفي الوقت نفسه، كان عناصر البلدية يجوبون شوارع المدينة ليلاً ويوزّعون الطعم السام في أرجاء المدينة كافة مع عبارة تحذيرية: “احذروا الطعم السام”، وسهم يدلّ على مكان الطعم. الذي حصل أن عناصر البلدية كتبوا تلك العبارة بجانب أحد أماكن توزيع الطعم مع السهم، ليتفاجأ سكان المدينة بأن عبارة “احذروا الطعم السام” مع السهم تشير مصادفةً إلى صورة “للرفيق القائد”، الأمر الذي استدعى تدخّل “السلطات المختصّة” وإخفاء العبارة والسهم.

 

ثبات القائدين

 

كنتُ أنا كاتب هذه الأسطر في باص التنقل الداخلي في دمشق على أوتوستراد ابن النفيس خلال العام 2007. توقف الباص عند أول مستودع ضخم للغاز المنزلي. قرأتُ على الجدار عبارة: “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد”، وهو الشعار الأكثر ترداداً لدى عموم السوريين في فترة حكم الرئيس حافظ الأسد، وفي مكان قريب من “الشعار” يمكن ملاحظة عبارة “سعر أسطوانة الغاز 25 ل.س.”.

 

تحرّك الباص إلى الموقف التالي وقرأت عبارة “حافظ الأسد رمز الثورة العربية”، وفي مكان ملاصق “سعر أسطوانة الغاز 150 ل.س.”. تابع الباص سيره حتى نهاية مستودع الغاز وتوقّف في الموقف حيث قرأت عبارة “نعم لقائد مسيرة الحزب والشعب الرفيق الدكتور بشار حافظ الأسد”، وبالقرب منها عبارة “سعر أسطوانة الغاز 275 ل.س.”. يمكن ملاحظة مما سبق أن المتغيّر الوحيد في حياة السوريين على مدى نحو أربعين عاماً هو فقط “سعر أسطوانة الغاز” والأسعار الأخرى العديدة، وبقي الأسدان راسخين رسوخ “التاريخ والحق العربي”.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى