“محور الممانعة” من ذروة النفوذ إلى مفترق التراجع

 

كانت لافتة و”مؤثرة” الفتوى النادرة التي صدرت عن أبرز عالم إسلامي في غزة، والعميد السابق لكلية الشريعة والقانون في الجامعة الإسلامية التابعة لحركة “حماس”، وأحد أبرز العلماء الذين يمثلون السلطة الدينية في القطاع سلمان الداية في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري.

تلك الفتوى دانت هجوم “حماس” على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، وعلى إثر الهجوم اندلعت حرب شعواء ومدمرة في الداخل الفلسطيني، تمددت إلى لبنان بعد إطلاق “حزب الله” جبهة المساندة من الجنوب.

وانتقدت فتوى الداية التي نشرت في وثيقة مفصلة من ست صفحات، “حماس” بسبب ما أسماه “انتهاك المبادئ الإسلامية التي تحكم الجهاد”، مضيفاً أنه “إذا لم تتوافر أركان الجهاد أو أسبابه أو شروطه، فلا بد من تجنبه حتى لا نهلك أرواح الناس، وهذا أمر يسهل على الساسة في بلادنا تخمينه، لذا كان لا بد من تجنب الهجوم”.

ووفقاً لأستاذ الفقه وأصوله في كلية الشريعة الإسلامية، “أن الخسائر الكبيرة في صفوف المدنيين في غزة، إلى جانب الدمار الواسع النطاق للبنى التحتية المدنية والكارثة الإنسانية التي أعقبت هجوم السابع من أكتوبر، تعني أن ذلك الهجوم يتناقض مباشرة مع تعاليم الإسلام”، وحمّل الداية “حماس” مسؤولية الفشل في الوفاء بالتزاماتها “بإبعاد المقاتلين من منازل المدنيين (الفلسطينيين) العزل وملاجئهم.

وقالت وزارة الصحة الفلسطينية السبت الماضي إن حصيلة العدوان الإسرائيلي ارتفعت إلى 43552 قتيلاً و102765 جريحاً منذ السابع من أكتوبر 2023، وبالنسبة إلى الخسائر المادية، فكان المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة قدّر الخسائر المالية الأولية المباشرة بنحو 33 مليار دولار.

ويتطابق ما حل في غزة مع الكوارث التي طاولت الجنوب اللبناني والضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، وبعضاً من بلدات البقاع الشمالي والغربي، وتلك المناطق تعتبر الخزان البشري لـ”حزب الله” ومناطق تمدد نفوذه وسيطرته، وأعلنت وزارة الصحة اللبنانية في السادس من نوفمبر الجاري عن ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على البلاد منذ الثامن من تشرين الأول 2023 إلى ثلاثة آلاف و50 قتيلاً و13 ألفاً و658 جريحاً، والأعداد في تصاعد يومي، وعن الخسائر المادية قال وزير الاقتصاد والتجارة أمين سلام إن حجم الخسائر الاقتصادية وصل بحسب تقييم بعض المؤسسات الخاصة إلى 20 مليار دولار.

تحديات يواجهها “المحور”

لا يصح وصف الوضع بعد كل تلك المعطيات إلا بأوصاف كارثية ومفجعة، وبطبيعة الحال من يدفع الثمن هم الأبرياء، فيما يحملنا هذا الواقع إلى تحليل وتقييم ما قام به فريق “محور الممانعة” منذ أن رفع شعار القضية الفلسطينية ومواجهة “الهيمنة الغربية”.

يطلق مصطلح “محور الممانعة” على التحالف الإقليمي الذي يضم مجموعة من الدول والجماعات المسلحة التي تعلن معارضتها لسياسات الولايات المتحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط، ويتمحور حول إيران كقوة إقليمية ويشمل دولاً وجماعات في لبنان والعراق وسوريا واليمن وفلسطين، مثل “حزب الله” وعدد من الحركات المسلحة في العراق وجماعة الحوثيين في اليمن، إضافة إلى حركتي “حماس” والجهاد” الفلسطينيتين وكلها بدعم إيراني، وتطورت هذه القوى لتشكل محوراً مترابطاً يهدف إلى مقاومة الهيمنة الغربية والإسرائيلية في المنطقة، لكنه واجه خلال الأعوام الأخيرة انتقادات جوهرية وتحديات كبيرة قد تؤذن ببداية النهاية.

التقاء مصالح النظامين السوري والإيراني

وعلى رغم الخطاب السياسي والإعلامي الذي يتبناه المحور عن تحقيق “الانتصارات”، فإن الواقع يكشف عن سلسلة من الهزائم المتكررة التي عاناها على الصعيدين العسكري والسياسي، وليست الحرب الأخيرة الشاهد الوحيد، إذ يمكن تعداد هزائم عدة مني بها، منذ الثورة في إيران عام 1979، لكن من الممكن العودة إلى ما قبل ذلك التاريخ أي منذ رفع شعار تحرير فلسطين وتحت عنوان الصراع العربي- الإسرائيلي الذي تحول إلى ما يعرف اليوم بـ”محور الممانعة”، بعد خروج مصر من منظومة الصراع عقي توقيع “اتفاقية كامب ديفيد” عام 1978.

تقول دراسة لمركز “حرمون للدراسات المعاصرة” بعنوان “محور المقاومة والممانعة والاستثمار في الفشل”، نشرت عام 2019، إن مصر خرجت من الصراع بعد “استحالة حصول أي حرب أو كسبها ضد إسرائيل، أو حتى أي نوع من المواجهة الفعلية للحلف الأميركي-الإسرائيلي، قاد النظام السوري حملة إعلامية رافضة للاتفاقية، إلى جانب المنظمات الفلسطينية وقوى اليسار على امتداد العالم العربي، مع أنه كان قد وقع اتفاقية “فك الاشتباك” عام 1974 التي صمدت حتى الآن وحققت لإسرائيل أماناً لم تكُن لتحلم به، فكانت جبهة الجولان هي الأهدأ طوال أكثر من أربعة عقود، وما زالت”.

وتتابع الدراسة أنه “وفي عقب انتصار الثورة في إيران عام 1979، وجد النظام السوري في التحالف مع نظام الخميني مخرجاً من مأزقه في التعامل مع محيطه العربي، بخاصة بعد انهيار محاولة التقارب مع نظام صدام حسين في العراق عام 1977، وعلى قاعدة هذا التحالف، تشكل أساس محور الممانعة الذي ضم لاحقاً بعض الحركات والمنظمات المرتبطة بإيران، مثل ’حزب الله‘ في لبنان والميليشيات الشيعية في العراق، إلى جانب حركتي ’الجهاد‘ و’حماس‘ في الداخل الفلسطيني”.

من هنا و”عن طريق هذا الحلف، فرضت إيران نفسها لاعباً مباشراً في الصراع العربي- الإسرائيلي، واستغلت الكم الكبير من الإحباط الذي تعانيه الشعوب العربية للولوج إلى المنطقة بقوة، من باب التحريض على قتال إسرائيل وإطلاق التهديدات ضدها، ومن خلال تسليح ودعم ’حزب الله‘ وحركتي ’الجهاد‘ و’حماس‘، وهكذا التقت مصلحة النظام السوري في تعزيز سلطته عن طريق رفع شعارات الصمود والتصدي العروبية والتوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، مع مصلحة إيران في تصدير ثورتها والهيمنة على المنطقة”.

سوريا تنأى بنفسها

ولكن خلال الحرب الحالية، كان واضحاً أن النظام السوري نأى بنفسه عن أي مواجهة مباشرة مع إسرائيل في الأحداث الأخيرة.

هذا الموقف يعكس مزيجاً من الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي دفعت النظام السوري إلى التحفظ، ذلك أنه إضافة إلى الوضع الداخلي الهش والأزمات الاقتصادية الخانقة التي يعانيها والأوضاع الإنسانية الصعبة، مما يجعل الدخول في حرب شاملة عبئاً لا يمكن تحمله، لكن لا يزال النظام يواجه تهديدات داخلية من جيوب “المعارضة المسلحة” وبعض المناطق الخارجة عن السيطرة، مما يضعف قدرته على تحمل فتح جبهة جديدة.

ومع استنزاف الجيش السوري بشدة خلال أعوام الحرب، أصبح يعتمد على حلفاء مثل روسيا وإيران في عملياته، مما قلل من استقلاليته العسكرية. وعلى رغم الدعم الإيراني، فإن سوريا تفتقر إلى الموارد والقدرات اللازمة لشن حرب مباشرة مع إسرائيل، بخاصة بعد تعرض بنيتها التحتية العسكرية لضربات إسرائيلية متكررة. وعلى رغم ذلك التحالف القوي مع إيران، يبدو أن سوريا اختارت البقاء في الظل، تاركة لإيران و”حزب الله” المساحة للمواجهة مع إسرائيل.

أيضاً كان لروسيا الدور الكبير في ضبط سلوك سوريا، فهي تسعى إلى تجنب تصعيد كبير في المنطقة قد يعقد مصالحها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، ولا ننسى أن سوريا وإسرائيل في حال هدنة غير معلنة، وعلى رغم العداء المتبادل، فإن فتح جبهة مباشرة مع إسرائيل قد يؤدي إلى تدمير شامل للمنشآت السورية، مما لا يستطيع النظام السوري تحمله، عدا عن الضربات الإسرائيلية “الاستباقية”، إذ ظهرت خلال الأعوام الماضية قدرة إسرائيل على استهداف مواقع حساسة داخل سوريا من دون مواجهة رد مباشر، مما أظهر محدودية قدرة دمشق على الرد.

الأهم من كل هذا أن سوريا عادت أخيراً إلى الجامعة العربية وتسعى إلى تحسين علاقاتها مع دول الخليج، وأي تصعيد عسكري مع إسرائيل قد يعرقل هذه الجهود، ومن هذه الزاوية يبدو أن الأولويات والحسابات السورية ليست متطابقة تماماً مع أولويات “حماس أو “حزب الله”، وأيضاً النظام الإيراني، بخاصة في ظل تعقيدات الوضع الداخلي السوري، إذ إن نأي سوريا بنفسها عن الحرب مع إسرائيل يعكس استراتيجية تعتمد على تجنب الدخول في صراعات مباشرة قد تزيد من أعبائها الداخلية وتعرض نظامها لأخطار غير محسوبة. في الوقت نفسه، يبدو أن النظام يراهن على تقديم الدعم الرمزي لـ”محور الممانعة” من دون التورط الفعلي.

استغلال “القضية”

ويتهم المحور بأنه يستخدم القضية الفلسطينية كذريعة لتوسيع نفوذه الإقليمي، مما يقلل من استقلالية القرار الفلسطيني الداخلي، وهو فشل في تحقيق نصر حاسم في حروبه مع إسرائيل، إضافة إلى استنزاف موارده في صراعات إقليمية، وصولاً إلى خسارة دعم شعبي ودولي للقضية الفلسطينية التي يدّعي تبنيها. وتبدو هذه الهزائم انعكاساً لتناقضات في استراتيجيات المحور وارتباطه بأجندات إقليمية تتجاوز القضية الفلسطينية. وهذه السلسلة من الإخفاقات تطرح تساؤلات جوهرية حول مدى فاعلية هذا المحور في تحقيق أهدافه المعلنة، ومدى تأثير هذه الهزائم في توازن القوى داخل المنطقة.

مثلت الثورة الإيرانية نقطة التحول الأولى التي أوجدت فكرة محور مقاوم للغرب، وقدمت إيران نفسها على أنها دولة ذات مشروع “إسلامي-ثوري”، وبدأت بدعم الحركات المناهضة لإسرائيل والولايات المتحدة. وكان تشكيل “حزب الله” في لبنان في أوائل الثمانينيات أول تجليات هذا المشروع، فأصبح الحزب ركيزة أساسية للمحور. وقدمت طهران دعماً لحركات فلسطينية مثل “حماس” و”الجهاد”، إذ ركز هذا الدعم على رفع شعار قتال إسرائيل. ثم جاءت الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) وعلى رغم أن الحرب بين العراق وإيران لم تكُن جزءاً من “محور الممانعة”، فإنها شكلت خلفية مهمة لتطوير سياسات إيران الإقليمية عبر توسيع نفوذها في العراق لاحقاً.

وعلى ضوء تلك الحرب، مثّل التحالف الإيراني-السوري محوراً مركزياً، فدعمت سوريا إيران في الحرب العراقية-الإيرانية، وأصبحت دمشق قناة رئيسة لإيصال الدعم إلى “حزب الله” و”حماس”.

وجاء الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وشكلت تلك الحرب فرصة ذهبية لإيران لتوسيع نفوذها الإقليمي، وظهرت جماعات شيعية مسلحة مثل “فيلق بدر” و”جيش المهدي” وغيرها من الفصائل الشيعية في العراق التي تلقت دعماً مباشراً من إيران. وبناء على ذلك، أسست طهران لسيطرة غير مباشرة على العراق من خلال دعم النخب السياسية والعسكرية الشيعية.

ومنذ الحرب السورية حتى يومنا هذا، أصبح النظام مهدداً بالسقوط، مما دفع “محور الممانعة” إلى تقديم دعم واسع للنظام، بدءاً من “حزب الله” وصولاً إلى “الحرس الثوري” الإيراني، وتدخلت إيران و”حزب الله” بصورة عسكرية مباشرة وأرسلت ميليشيات عراقية وأفغانية دعماً للنظام.

ومع صعود الحوثيين في اليمن وسيطرتهم على العاصمة صنعاء في الـ21 من سبتمبر (أيلول) عام 2014 واستيلائهم على مقر الحكومة، كانت طهران من دعمت “الحوثيين”، وتحول اليمن إلى ساحة أخرى لـ”محور الممانعة” في مواجهة السعودية والإمارات.

ووصلت قوة المحور إلى ذروتها، خصوصاً بعدما نجح في تعزيز موقفه إقليمياً، بعد الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 الذي منح طهران مساحة للتحرك، وأنشأت تحالفات سياسية وعسكرية وأصبح “حزب الله” قوة إقليمية، وبرز في معارك سوريا والعراق واليمن وبات الحوثيون يشكلون تهديداً استراتيجياً لدول الخليج من خلال الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. وشهدت الحرب السورية تعاوناً استراتيجياً إيرانياً- روسياً، مما زاد من قوة المحور، بخاصة في تثبيت النظام السوري.

الأزمات الاقتصادية في إيران

بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018 والعقوبات الأميركية التي لحقت بإيران بعد ذلك، ضعف الاقتصاد الإيراني بصورة كبيرة، مما أثر في قدرة النظام على تمويل حلفائه. وبدأت تخرج تحركات شعبية في العراق عام 2019 حيث اندلعت تظاهرات ضد النفوذ الإيراني والفساد، مما أضعف حلفاء إيران السياسيين.

وفي لبنان، شهدت البلاد احتجاجات شعبية ضد الفساد وسيطرة النخب السياسية، بما في ذلك “حزب الله”. ومن ثم تصاعدت الاحتجاجات في عقر دار النظام الإيراني، عام 2022، مما أثر في استقراره.

الحرب في اليمن

وبدأ يواجه الحوثيون مقاومة شديدة من التحالف العربي، وأصبح الصراع مستنزفاً لإيران، ودخلت على الخط التحديات في سوريا، ذلك أنه وعلى رغم نجاح المحور في الحفاظ على النظام السوري، فإن التدخلين التركي والإسرائيلي أصبحا يشكلان تهديداً مستمراً لمصالح المحور. وجاء الانفتاح الإقليمي على إسرائيل، بعد اتفاقات السلام بينها ودول عربية مثل الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، مما زاد من عزلة المحور.

والأزمات التي ضربت حلفاء إيران داخل بلادهم، أدت إلى تآكل شرعية المحور بفعل تلك الأزمات الداخلية، وزادت على ذلك الانقسامات داخل العراق بين الفصائل الشيعية نفسها، والتراجع الشعبي لـ”حزب الله” في لبنان، أضف إلى أن التغيرات الدولية والإقليمية وتراجع الاهتمام الأميركي بالمنطقة إلى حد كبير، أدت إلى تقليص النفوذ الإيراني بسبب غياب الخصم التقليدي. وفي المقابل فإن الصعود الصيني في المنطقة سيحد من النفوذ الإيراني على المدى البعيد.

تأثير “طوفان الأقصى” في “محور الممانعة”

لكن الحرب الأخيرة أي منذ اندلاع ما عرف بـ”طوفان الأقصى”، العملية التي أطلقتها حركة “حماس” ضد إسرائيل، كانت نقطة تحول في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وأثرت بصورة مباشرة وغير مباشرة في “محور الممانعة”. ومع أن العملية بدت وكأنها نجاح تكتيكي في بدايتها، إلا أن تطوراتها اللاحقة أظهرت تحديات وإخفاقات طاولت المحور من طهران إلى بيروت مروراً بدمشق وبغداد وغزة بطبيعة الحال، ذلك أنه ومع تصاعد حدة الصراع، واجه “محور الممانعة” انتقادات داخلية وخارجية حول عدم التنسيق الفاعل مع “حماس” أو تقديم دعم إيراني مباشر في المعركة، مما أثار تساؤلات حول جدوى استراتيجية ما عُرف بـ”وحدة الساحات”.

وواجهت تلك العملية تراجعاً واضحاً للدعم الدولي، فرأت دول عدة أن لتل أبيب الحق في الدفاع عن النفس، وأن ما قامت به “حماس” ولاحقاً “حزب الله” عبر فتحه لجبهة الإسناد من الجنوب اللبناني، بمثابة تعدٍّ وشن حرب ضد إسرائيل، وأظهر الرد الإسرائيلي القاسي على غزة ولاحقاً على الأراضي اللبنانية، ضعف قدرة المحور على التأثير دولياً، بخاصة في مواجهة الدعم الغربي الواسع لإسرائيل.

تحييد الجبهات الأخرى

وعلى رغم الضربات المحدودة التي كان بدأ بها “حزب الله”، لم تتطور الأمور إلى فتح جبهة شاملة، حتى بعدما عملت إسرائيل على مهاجمة لبنان، وعملت على تدمير ممنهج ومنذ أواخر سبتمبر الماضي، لبلدات جنوبية عدة أزيلت عن الخريطة، وفككت مفاصل الحزب عبر الاغتيالات الدقيقة التي طاولت أهم قادته ورأسه، حسن نصرالله، ودمرت ولا تزال ما تعتبره مواقع ومخازن أسلحة أو أنفاقاً تابعة للحزب، وقطعت طرق الإمداد عبر الغارات التي تطاول المعابر ما بين لبنان وسوريا، عدا عن عمليات الاغتيال الواسعة في الداخل السوري واستهداف مواقع إيرانية وأخرى تابعة للحزب، لكن المحور بقي هامداً إلى حد ما والساحات فاترة، مما أظهر عجزه عن توسيع نطاق الحرب، وتنفيذ تهديدات عدة كان أطلقها بدءاً من إزالة إسرائيل عن الخريطة، إلى أنه وبـ”كبسة زر” (الشهيرة)، يستطيع الحزب أن يدمر وزارة الدفاع.

ومن المفيد الإشارة إلى أن المحور يواجه استنزافاً مستمراً بسبب التزاماته العسكرية في سوريا واليمن، ويقول مطلعون إن وتيرة إطلاق الحزب باتجاه الشمال الإسرائيلي خفت نوعاً ما، مما ينظر إليه على أن مخزونه من الأسلحة بدأ ينفد.

تفاوت الأولويات داخل المحور

وأظهرت الأحداث أن هناك تفاوتاً في أولويات أطراف المحور، فبينما ركزت إيران على “حماية حدودها” من الضربات الإسرائيلية، كانت حسابات “حزب الله” مرتبطة بالأوضاع في الداخل اللبناني وتجنب حرب شاملة، علماً أن “حماس” واجهت حرباً إسرائيلية شعواء، واغتيل عدد كبير من قادتها، من بينهم رئيس الحركة يحيى السنوار، وقائد جناحها العسكري “كتائب عز الدين القسام” محمد الضيف ورئيس المكتب السياسي في الخارج سابقاً، إسماعيل هنية الذي اغتيل في قلب طهران. لكن إيران لم تتحرك بصورة متوازية مع الضربات التي تلقاه المحور، مما أثار نقمة شديدة على النظام الإيراني، إن كان في داخل “حماس” أو “حزب الله”، حتى إنه نُقل عن بعض الحزبيين أنهم يشعرون بأن إيران تخلت عنهم.

وتؤكد ذلك المعطيات الواضحة على الأرض، فيعتبر المتابعون أن الحزب كما الحركة تركا وحيدَين بمواجهة العدوان الإسرائيلي، مما رفع من حدة الانتقادات الشعبية، وشهدت المجتمعات المرتبطة بالمحور والبيئات الحاضنة، بخاصة في لبنان، انتقادات متزايدة حول اقتصار الدعم على التصريحات من دون خطوات عملية.

كل ذلك فاقم الضغوط الاقتصادية على دول وجماعات المحور، خصوصاً إيران ولبنان، مما حدّ من قدرتهما على دعم الفلسطينيين مالياً أو لوجستياً، أضف إلى ذلك الأعباء والانهيارات الاجتماعية بسبب النزوح والتهجير، والموت الذي لا يزال يلاحق بيئة الحزب الحاضنة، كما الغزيين في الداخل الفلسطيني.

إعادة تقييم الاستراتيجيات

بينما أظهر “طوفان الأقصى” قدرة “حماس” على المبادرة، إلا أنه كشف عن نقاط ضعف جوهرية في “محور الممانعة”، تحديداً على صعيد التنسيق الأولويات والقدرة على تحمل تبعات حرب شاملة. وهذه التحديات قد تدفع المحور إما إلى تعزيز قدراته عبر تغييرات استراتيجية، أو إلى تراجع نفوذه الإقليمي، لا سيما إذا استمرت الضغوط السياسية والاقتصادية عليه، وربما تدفع هذه العملية المحور إلى إعادة التفكير في أولوياته وتحالفاته، إذ ظهر أن الدعم غير المباشر غير كافٍ لتحقيق نتائج حاسمة، فضلاً عن تآكل الردع، وعلى رغم نجاح “حماس” في كسر الهيبة الإسرائيلية جزئياً، فإن عدم تدخل المحور بفاعلية أضعف منطق “الوحدة الميدانية” الذي يدّعيه.

كل ذلك يضع المحور على مفترق طرق وعلى رغم أنه لا يزال لاعباً مهماً في المنطقة، فإن التحديات الداخلية والخارجية بدأت تقوض قوته، إذ إنه تحول من محور يتوسع إلى محور يدافع عن وجوده، وسط تغيرات إقليمية ودولية تهدد بإعادة تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط.

 

 

 

المصدر اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى