هل انتهى محور الممانعة؟
قتال من دون أفق في غزة ولبنان ورهان أخير على دخول إيراني يعدل موازين القوى .
ملخص .
السير في نهج انتحاري هو السائد في القطاعين اللبناني والفلسطيني، من دون البحث في إمكان الحد من الخسائر والخروج من المغامرة القاتلة.
هل انتهى محور المقاومة والممانعة الإيراني؟ سؤال يصح طرحه بعد مرور أكثر من عام على افتتاح هذا المحور أول معاركه، ووضعه موضع التطبيق نظريته عن “وحدة الساحات” التي جرى امتحانها بالنار، وجاءت نتائجها كارثية على أطرافها.
سؤال ثان يجب طرحه ومفاده أنه إذا كانت التجربة الإيرانية قد سقطت فهل سقط العنوان الأصلي الذي بنت عليه وبررت بواسطته وجودها وتماديها؟
العنوان كان القضية الفلسطينية التي باسمها غزت إيران المجتمعات العربية، فبنت ميليشيات تابعة ودعمت أخرى ضمن إستراتيجيتها المذهبية القومية التوسعية، فهل سقوط هذه الإستراتيجية يعني سقوط تلك القضية؟
الجواب عن سؤال سقوط المحور تقدمه الوقائع الحاصلة على الأرض من غزة إلى لبنان، أما الجواب عن سؤال سقوط القضية فهو في نفي ذلك كلياً، فقد أتاح وسيتيح انهيار مشروع الملالي إعادة إمساك الجانب العربي بمسألة كانت دائماً في أساس وحدته، والمشترك الأساس في صلب سياسات دوله التي ذهبت إلى تأسيس جامعتها قبل نحو 80 عاماً، جاعلة من فلسطين بندها المركزي.
في مسألة تهافت نظرية الساحات الواحدة لا يكفي القول إن حركة “حماس” انفردت بقرار “طوفان الأقصى” لتبرير سلوكيات أعضاء المحور الإيراني الآخرين، وفي مقدمهم إيران نفسها، فالحديث عن تلك الساحات الموحدة سبق غزوة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بكثير، وأصحابه يعيدون الفضل في قيامها للواء الايراني قاسم سليماني الذي قتلته الولايات المتحدة الأميركية مطلع عام 2020، ليرث دوره على ما قيل الأمين العام لـ “حزب الله” حسن نصرالله الذي بذل جهوداً كبيرة في تنسيق وقيادة المنضوين تحت لواء طهران، من فلسطين إلى اليمن وإلى العراق وسوريا، وحوّل الضاحية الجنوبية لبيروت إلى مقر ومنصة لكل هؤلاء في عملهم السياسي والعسكري والإعلامي.
وقد بذلت تلك الجهود على وقع خطاب إيراني عال النبرة لا يكتفي بأقل من تدمير الكيان المزيف وإزالته من الوجود، وفي الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف السامي كانت استعدادات ميليشيات المحور تطيح في طريقها ببلدان ومجتمعات ودساتير وقوانين، وبات لبنان مقطوع الرأس وفي إمرة “حزب الله”، والعراق يفقد صفته كدولة دستورية تحت ضغط “الحشد الشعبي”، وشعارات الموت لأميركا واليهود باتت للحوثيين منفذ هرب من موجبات التسوية الداخلية والسلام والتنمية، وفي سوريا التي أرادتها إيران ركناً أساساً في سياستها الإقليمية، اقتضت مصلحة النظام مواصلة الخطاب المقاوم والابتعاد من متطلباته، من دون أن يؤثر ذلك في حاجات المحور الملحة إلى دور سوري مغاير.
لم تقف السلطة في إيران كثيراً، وهي التي تتهم معارضيها في الداخل بممالاة الغرب أمام معاني الحياد السوري، فلم تنتقده ولم تبذل جهداً بارزاً لتغييره، وربما كان ذلك أول إشارات سقوط المحور كتحالف سياسي عسكري في تجربته الأولى، حرب غزة، فنأت سوريا الأسد بنفسها عن معركة غزة، لكن إيران سبقتها إلى ذلك.
أعلن قادة إيران وعلى رأسهم المرشد علي خامنئي أنهم لم يعلموا بالطوفان إلا بعد حدوثه، بعد أن كانت تصريحاتهم وخططهم ومشاريعهم كلها تقول إن المعركة الكبرى قادمة وسيخوضونها، ولن يبقى شيء اسمه إسرائيل، وسيتم في الوقت عينه تحرير غرب آسيا من إيران حتى البحر المتوسط، من الصهاينة والأميركيين.
كشفت بداية “طوفان غزة” دولتي المحور، وسرعان ما حاصرت “درة تاج” الإمبراطورية الخمينية المذهبية، فـ “حزب الله” الذي كان يعد خططاً لاقتحام الجليل ويبني ترسانة لهذه الغاية، التزم رواية عدم العلم المسبق الإيرانية بغزوة “حماس”، وبدأ في اليوم التالي مناوشات على الحدود تحت عنوان مساندة غزة وإشغال الجيش الإسرائيلي، في انتظار ما سيقرره ولي الفقيه من استثمار لتلك المساندة في تعزيز الموقع الإيراني التفاوضي مع الأميركيين، لكن هذه الإستراتيجية في الإسناد والمشاغلة لم تمنع تدمير القطاع وتشريد شعبه، وقادت في النهاية إلى حرب تدميرية في لبنان قضت على قيادة الحزب وكوادره، وأوقعت ما يقارب 3 آلاف قتيل من اللبنانيين، في معركة ليس واضحاً متى ستنتهي.
فقد “حزب الله” في هذه الحرب، ليس فقط قادته وقسماً كبيراً من ترسانته العسكرية، وإنما المبررات التي سمحت له بالبقاء كميليشيات خارج الدولة وفوقها طوال ربع قرن، فقد ادعى دائماً أنه موجود ما دامت مزارع شبعا محتلة، وللدفاع عن لبنان في حال تعرضه لعدوان إسرائيلي.
وفي الحرب التي ورّط لبنانَ فيها من دون أي اعتبار لموقف شعبه وجيشه وحكومته، لم يقم الحزب بأية محاولة لتحرير المزارع، مع أن ذلك كان متاحاً لحظة فتح المعركة في غزة، كما أنه لم يتمكن من ردع إسرائيل عن استباحة الأجواء والأرض اللبنانية وتدميرها وطرد سكانها، وبهذا أسقط بسلوكه كل المبررات التي أطلقها لتشريع استمراره دولة داخل الدولة.
عنصرا المحور المقاتلان تكبدا خسائر لا تعوض، فيما دولتاه اكتفتا بالمراقبة، فـ “حماس” و”حزب الله” الذي يحتل مكانة رفيعة في الهيكلية الإيرانية تكبدا الخسائر الفادحة، وحوّلا الأرض التي يقيمان عليها خرائب، أما الحوثي البعيد من أرض المعركة فقد تلقى رسائل قاسية من إسرائيل نفسها ومن التحالف الأميركي الدولي في البحر الأحمر، فيما انضوى الجانب العراقي تحت مقتنيات مصلحة المشروع الإيراني الذي أخذ بعين الاعتبار ضربات وتنبيهات أميركية وإسرائيلية جعلته ينكفئ منذ فبراير (شباط) الماضي، ويتواضع في أهدافه التحريرية.
الآن تستمر “حماس” المدمرة في غزة المدمرة، و”حزب الله” المدمر في لبنان المدمر، في إصرارهما على مواصلة القتال في مواجهة أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً، مدعومة من مجتمع إسرائيلي فقد عناصر كانت في الماضي على استعداد للبحث في تسويات وترتيبات، فالسير في نهج انتحاري هو السائد في القطاعين اللبناني والفلسطيني من دون البحث في إمكان الحد من الخسائر والخروج من المغامرة القاتلة.
في غزة تمتنع “حماس” من الاستعانة بالسلطة الفلسطينية المعترف بها دولياً لتتولى البحث عن مخارج تضمن عودة الأمن للقطاع، وفي لبنان حال مشابهة من امتناع “حزب الله” من تسليم الحكومة، وما تبقى من سلطة شرعية، البحث مع العرب والعالم عن باب للخروج من المجزرة، ناهيك عن إصراره على عدم انتخاب رئيس للدولة قبل ضمان استمرار هيمنته خلال المرحلة المقبلة، وكأن شيئاً لم يحصل.
لقد باتت مواصلة القتال من جانب “حزب الله” فاقدة للمعنى السياسي في ظروف التوحش والإصرار الإسرائيليين على عدم إبقاء تنظيمات مسلحة تهدد وجودها في لبنان كما في غزة، وفي المكانين يحتاج الفلسطينيون واللبنانيون إلى بارقة أمل.
في غزة استعادة السلام والإعمار على طريق البحث عن الدولة المستقلة، وفي لبنان وقف الحرب والحفاظ على دولة مستقلة لا تهددها المغامرات الإيرانية والعدوانية الإسرائيلية بالزوال، لكن ذلك لا يبدو قريب المنال.
رهان “حزب الله” قد يكون قائماً على هجوم إيراني آخر ضد إسرائيل يحسّن من شروط التفاوض معها، وربما يكون شعور “حماس” مماثلاً، وقد تفعل إيران شيئاً كما نشرت بعض وسائل الإعلام أخيراً، لكن ذلك لن يغير في الاتجاه العام من سير الأحداث المقروء جيداً، فالدولة العبرية ستواصل حربها بدعم أميركي وغربي وصمت شرقي يبلغ حد التواطؤ والموافقة.
يسقط المحور الإيراني مخلفاً وراءه المآسي والضحايا والدمار، ومن دون أن يقدم بارقة أمل حول المستقبل، والبارقة الوحيدة التي تلوح من بين غبار الحروب القائمة تأتي الآن من الجانب العربي، فالاجتماع الدولي الأول لدعم حق الدولتين الذي دعت إليه الرياض واستضافته يؤسس لمثل هذه البارقة المأمولة، والقمة العربية – الإسلامية الثانية في العاصمة السعودية ستكون بلا شك مكاناً لطرح بدائل اليوم الثاني لنزاعات لم تفعل سوى تضييع الأصل، في خضم معارك دعم طموحات إقليمية غير مشروعة.
طوني فرنسيس