
القضاة المنشقون في سوريا بين فرصة الإصلاح ومخاوف تدوير الماضي
أعلنت وزارة العدل تحديد يوم الاثنين موعداً أخيراً لمقابلة القضاة المنشقين عن النظام السابق والراغبين في العودة إلى سلك القضاء، في خطوة تعكس مساعي الإدارة الجديدة إلى تفعيل المحاكم المتوقفة وتعويض النقص الكبير في الكوادر العدلية.
وتشترط الوزارة على الراغبين العودة تقديم طلبات خطية، واجتياز مقابلة تقييمية، والتعهد بعدم الانتماء لأي جهة سياسية، إلى جانب الخضوع لفحص أمني دقيق، ما يعكس محاولة لتحقيق توازن بين فتح الباب أمام الكفاءات السابقة والحذر من اختراقات محتملة.
هذه الخطوة قوبلت بتباين كبير في الآراء بين من يعتبرها فرصة لإصلاح ما تهدم في جسم القضاء، وبين من يراها مدخلاً محفوفاً بالمخاطر لإعادة تدوير وجوه من الماضي دون ضمانات كافية.
القاضي مأمون العفيف، وهو أحد المنشقين منذ عام 2012، يرى في هذه المبادرة “فرصة ذهبية لإعادة اللحمة إلى الجسم القضائي”، مؤكداً أن الكثير من المنشقين لم يكونوا جزءاً من منظومة الفساد، بل اتخذوا موقفاً شجاعاً في ظروف قسرية، وأن العبرة ليست في الانشقاق بحد ذاته، بل في الدافع والموقف من العدالة.
ويشدد العفيف على أن نجاح هذه المبادرة لا يمكن أن يتحقق دون رقابة صارمة تحول دون عودة عناصر مارست القمع سابقاً، داعياً إلى إشراك منظمات حقوقية وممثلي المجتمع المدني في تقييم القضاة والتدقيق في ملفاتهم بشكل شفاف، محذراً من محاولات استغلال القرار لأغراض سياسية خاصة في ظل ضعف أرشيف الوثائق وصعوبة التحقق من النوايا.
من جهتها، تعتبر الحقوقية لينا أبو حرب أن الحاجة إلى كفاءات قضائية حقيقية باتت ملحة، خصوصاً في ظل النقص العددي الحاد في المحاكم، لكنها تحذر من خطورة دخول قضاة كانوا مفصولين قبل عام 2011 لأسباب أخلاقية أو مهنية، ويروجون الآن أنهم من المنشقين، ما يتطلب آلية تحقق دقيقة لمنع التزوير واستغلال الظرف.
وتضيف أن الإصلاح القضائي لا يتحقق بمجرد تغيير الأسماء، بل يتطلب بنية جديدة تضع معايير الكفاءة والنزاهة فوق أي انتماء سياسي أو شخصي.
وفي مشهد لافت يعكس التحولات الجارية، سجلت نقابة المحامين في حلب خطوة غير مسبوقة بقرارها مقاطعة القاضي حسين فرحو، المشتبه في تورطه بانتهاكات ضد الشعب السوري، حيث اعتبر المحامي عارف الشعال أن هذا القرار “يعيد للنقابة دورها الحقيقي رقيباً على العدالة”، ويشكّل ضغطاً على مجلس القضاء الأعلى للإسراع في محاسبة القضاة المتورطين بالانتهاكات. ورأى أن هذه المقاطعة تضع النقابة في موقعها الطبيعي كجهة رقابية فاعلة، معبّراً عن أمله أن تمتد هذه الروح إلى كل النقابات والمحاكم.
المحامي عمار عز الدين يرى أن ما يحدث يشكّل اختباراً جدياً لإرادة الإصلاح في سورية، مؤكداً أن نجاح هذه المساعي يرتبط بالموازنة الدقيقة بين العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، والحرص على استقلال القرار القضائي من جهة، وبناء ثقة الناس بالمؤسسات من جهة أخرى.
ويضيف: “نحن نحمل ماضياً مثقلاً بالانتهاكات، لكن لا نريد أن نكرر أخطاءه بثوب جديد. المطلوب ليس فقط إعادة القضاة المنشقين، بل بناء قضاء يحمي الناس لا يعيد إخضاعهم”.
في المقابل، عبّر أحد القضاة الذين ظلوا في مناصبهم خلال فترة النظام السابق عن قلقه من أن تتحول هذه الخطوة إلى سابقة خطيرة، متسائلاً عن الضمانات الكافية لعدم استغلال بعض المنشقين مواقعهم الجديدة لتصفية حسابات شخصية.
وقال في حديثه لـ “العربي الجديد” إن بعض المنشقين يحملون روحاً انتقامية بعد سنوات النفي، ويخشى أن تتحول عودتهم إلى أداة صراع جديدة.
واعتبر أن القرار يبدو متسرعاً في ظل وجود العشرات من القضاة الشباب المؤهلين والعاطلين عن العمل، متسائلاً عن جدوى استعادة عناصر من الماضي بدلاً من بناء نظام قضائي جديد من الصفر.
وفيما اعتبر أن قرار نقابة المحامين في حلب خطوة جريئة، لم يُخفِ تخوفه من أن تصبح سابقة تُستَغل كسلاح سياسي في المستقبل.
وأشار إلى أن بعض المنشقين كانوا في الواقع أكثر تشدداً من قضاة النظام أنفسهم، مؤكداً أن الانشقاق لم يكن دوماً بدافع وطني أو مبدئي، بل أحياناً نتيجة خلافات شخصية وصراعات على النفوذ.
وشدد على أن البداية الحقيقية للإصلاح يجب أن تكون من خلال إقرار قانون جديد للسلطة القضائية يضمن استقلالها الكامل، قبل التفكير في إعادة عناصر من المنظومة السابقة، بغض النظر عن انتماءاتهم.
وتأتي هذه التطورات في سياق التحولات الجارية داخل المنظومة القضائية السورية، التي عانت لعقود طويلة من تدخل الأجهزة الأمنية والسياسية في عملها.
وفي الوقت الذي بدأت فيه بعض نقابات المحامين مبادرات إصلاحية، مثل تشكيل لجنة لرصد الانتهاكات في درعا، ومشروع للعدالة الانتقالية في حمص، لا تزال التحديات قائمة وأبرزها محاولات الاستغلال السياسي والمقاومة التي يبديها بعض رموز النظام السابق لأي تغيير حقيقي.
وفي خطوة لافتة، قررت وزارة العدل السورية في شباط الماضي إحالة 87 قاضياً إلى التحقيق، معظمهم ممن زاولوا مهامهم ضمن ما يُعرف بمحكمة “قضايا الإرهاب” التي تأسست عام 2013، والتي لطالما اعتبرت رمزاً للانتهاكات القانونية ضد المعارضين.
لكن رغم هذه القرارات، لا تزال أغلب المحاكم السورية بحالة شلل شبه كامل، إذ تتوقف أعمالها على تأجيل الجلسات وتسجيل بعض الشكاوى، دون إصدار أي أحكام فاصلة في القضايا الجنائية أو المدنية، فضلاً عن تعذر تسجيل الإشارات العقارية وتفاقم مشكلات التبليغ.
المشهد القضائي في سوريا يبدو اليوم على مفترق طرق، بين إصلاح يأمل كثيرون أن يكون حقيقياً وشاملاً، وخطر إعادة إنتاج منظومة العدالة الخاضعة التي رسّخها النظام السابق.
وبين هذين الخيارين، تبرز الحاجة إلى شفافية كاملة، ومساءلة علنية، ونظام رقابي مستقل يشارك فيه المجتمع المدني، ليكون أساساً للعدالة لا أداة لتزييفها.
فالقضاء لا يُبنى بقرارات ارتجالية أو عاطفية، بل على قيم راسخة تضمن الإنصاف والمحاسبة، وتحفظ كرامة السوريين بعد سنوات من الانتهاكات.