سوريا بين سندان أنقرة ومطرقة باريس : ساحة تنافس لاختبار خرائط النفوذ الجديدة

تعود سوريا إلى واجهة التنافس الدولي، ولكن ليس بوصفها رقعة دمار بين أيدي المتقاتلين المحليين، بل كمنصة حيوية لتجاذب جيوسياسي بين مقاربتين متناقضتين: الأولى تركية تتوسل النفوذ عبر القوة العسكرية والوجود الدفاعي الصلب، والثانية فرنسية تحاول التسلل عبر مساحات الدبلوماسية الرمادية.

مصادر خاصة من الخارجية الفرنسية كشفت لموقع “المدن” أن باريس تعكف على توسيع حضورها العسكري ضمن قوات التحالف الدولي في شمال شرقي سوريا وفي أربيل العراقية، وذلك ضمن خطّة لإعادة التموضع بعد سنوات من التراجع. لكن هذا التوسع، وإن بدا نشطاً، يبقى تحت المظلة العملياتية الأميركية، دون أي قدرة فعلية على التأثير المستقل، بحسب المصادر نفسها.

وفي ظل محدودية التأثير العسكري، تعوّل باريس على أدوات الوساطة، حيث دخلت، وفقاً للمصدر، في مسارات تفاوض غير معلنة لتهدئة التوتر بين تركيا و”قوات سوريا الديمقراطية”، مع محاولات إضافية لتقريب وجهات النظر بين “الإدارة الذاتية” ودمشق، في مسعى لضبط إيقاع التباينات قبل انفجارها على شكل صدام شامل.

لكن الرؤية الفرنسية حول “إعادة توحيد سوريا كمدخل لاستقرار إقليمي”، تصطدم بجملة عقبات: من المشروع التركي الرامي لإنشاء بنية دفاعية وجوية داخل سوريا، إلى المعارضة الإسرائيلية لهذا الطرح، وصولاً إلى التصعيد العسكري في الجنوب السوري، حيث تسعى تل أبيب لتوسيع منطقة عازلة، تحت مبرر “أمن الحدود”، في ما تراه باريس “وهماً أمنياً” يخفي خلفه نوايا لتقسيم ناعم للمنطقة.

وبحسب المصدر الفرنسي، فإن إسرائيل تحاول، على وقع الانكفاء الأميركي، بناء تشكيل محلي في الجنوب على غرار “الجيش اللبناني الجنوبي” الذي استخدمته في الثمانينات، لمواجهة ما تعتبره “تهديداً إسلامياً” مدعوماً من أنقرة.

شرق المتوسط: الصراع يمتد نحو البحر
ولا ينحصر هذا التنافس داخل الحدود السورية، بل يمتد إلى مياه شرق المتوسط، حيث تسعى تركيا لتثبيت خرائط نفوذ بحري جديدة منذ توقيع اتفاقها مع حكومة طرابلس عام 2019. في المقابل، تحاول باريس الدفاع عن حلفائها التقليديين في قبرص واليونان، وإن باتت أقل حدة في لهجتها بعد اشتداد الحاجة إلى التعاون مع أنقرة في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي، خاصة عقب الحرب في أوكرانيا.

وتشير معلومات حصلت عليها “المدن” إلى تفاهم أولي بين باريس ودمشق حول ترسيم الحدود البحرية، وهو تطور لافت في مسار العلاقة بين الجانبين، يعكس تحوّلاً تدريجياً في أولويات فرنسا، التي باتت تسعى إلى “احتواء تركيا لا مواجهتها”، وفق ما ورد في المصادر.

ناتو مقسوم… وتحالف مضطرب
العلاقة التركية-الفرنسية داخل حلف الناتو لا تزال قائمة على التناقض: بين شراكة اضطرارية وتنافس استراتيجي مكشوف، خاصة منذ أن وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحلف بـ”الميت دماغياً”، ردّت عليه أنقرة بوصف فرنسا بـ”القوة الاستعمارية”. لكن الحرب في أوكرانيا أعادت ترتيب الأولويات، ودفعت باريس إلى التماهي أكثر مع الديناميكيات الأميركية، بينما تصاعدت أهمية تركيا كعنصر مركزي في الحلف.

زيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى باريس مطلع نيسان/أبريل، بعد قطيعة دامت أكثر من عامين، كانت إشارة واضحة إلى بداية مرحلة جديدة من “التطبيع البارد”، رغم استمرار التباين في ملفات سوريا والطاقة واللاجئين.

لا يبدو الصراع بين باريس وأنقرة مجرد اختلاف على المواقع، بل تنافساً بين رؤيتين متناقضتين للنظام الإقليمي: رؤية تركية واقعية توسعية تستخدم أدوات القوة، ورؤية فرنسية مؤسسية تنشد التغيير عبر التحالفات والدبلوماسية. ومع تراجع النفوذ الأميركي، لم يعد بالإمكان حسم هذا التنافس، بل فقط إدارته عبر توازنات هشة، وتعايش قلق تُحكمه الضرورات الأمنية أكثر من التفاهمات السياسية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى